«النشرة الثقافية»: أسبوعٌ من أمراض المثقفين والعنتريات الفارغة
ربما يمكن القول بأريحية إن اتهام المثقف بالسكن في أبراج عاجية لم يعد منطقيًا اليوم، أو على الأقل ليس هو القاعدة، إذ بات السائد هو حضور المثقفين وانخراطهم في المناقشات السائدة، ولكن ليس كل حضور محمودًا ولا كل الغيابات مذمومة؛ هذا ما تكشف عنه نقاشات المثقفين في الآونة الأخيرة.
فرضت منصات التواصل الاجتماعي على المثقفين الانخراط في القضايا المثارة بل وفي أحيان كثيرة "صناعة التريند"، ما جعل علات الثقافة وأمراض المثفين تظهر جلية للعيان أو على الأرجح لمن يهتم بتقصي دلالاتها.. لم يعد السؤال اليوم عن المثقف الغائب وإنما عن المثقف الذي يمثل حضوره إشكالًا وتجليًا للفراغ الفكري وأمراض الثقافة.
زوابع بلا طائل وعنتريات فارغة
شهد الأسبوع الماضي إثارة لأكثر من قضية تمس الثقافة والمثقفين، كان منها المنشور الذي كتبه الروائي شادي لويس ليعلن رفضه جائزة ساويرس بعد إعلان النتائج، قائلًا: "سأحتفظ بالجائزة لليلة واحدة، وفي الصباح سأكتب لإدارة الجايزة أعلن عن تنازلي عنها مادياً ومعنوياً، وأطلب منهم شطب إسمي من قوائم الفائزين بيها".
رصدت الصحف العربية ردود الفعل بين مؤيد ومعارض، فأشار تقرير لصحيفة "إندبندنت عربية" إلى أن البعض اعتبر ما حدث أقرب إلى الألعاب الصبيانية، وهناك من انتقده لأنه حجب الجائزة عن آخر كان جديرًا بقيمتها الأدبية والمادية، وأخرون وصفوا التصرف بعدم "الأخلاقية" لأن الكاتب قبِل المشاركة وأُخبر قبل الحفل بالفوز، ومن ثم كان يمكنه رفض المشاركة من الأساس في الجائزة طالما أنه يمتلك موقفًا سلبيًا منها.
في المقابل، رأى البعض أن ما حدث يسهم في تحريك الركود في المشهد الثقافي أو أنه موقف بطولي، ورغم احتفاء الكثيرين بالعنترية التي يبديها المنشور وصاحبه، أدرك آخرون الوجه القبيح الذي يتجلى خلف موقف بطولي هش؛ فقيمة الجائزة المادية أقل تأثيرًا من القيمة المعنوية التي أثارها المنشور من حفلة دعائية للكاتب.
موقف آخر أثاره الكاتب السياسي مصطفى الفقي، في أحد البرامج التلفزيونية حينما قال إن توفيق الحكيم أحق بالفوز بجائزة نوبل من نجيب محفوظ، وأن الجائزة لم تمنح له لأنه كتب في الإسلاميات.
أثار هذا التصريح موجة من الجدل تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي بصورة أكبر من الصحف، فتساءل البعض عن الإسلاميات التي كتبها الحكيم والتي حالت دون فوزه، فكتاباته لا يُمكن اختزالها في هذا البُعد الذي كان محدودًا في أعماله، كما أنه من غير المفهوم أن يحمل تقدير لكاتب ما، وهو منظور شخصي، حطًا من قدر آخر أثرى الأدب العربي بمؤلفات ربما لا خلاف على قيمتها الأدبية.
غير أن السؤال هنا عن دواعي إثارة الجدالات العقيمة بلا طائل؛ لقد نال نجيب محفوظ جائزة نوبل عن استحقاق، يُدركه كل من قرأ أعماله، ليكون العربي الوحيد الذي فاز بالجائزة في مجال الآداب، فما الطائل من التسفيه من إنجاز نالته الثقافة العربيّة ومرّ عليه عقود؟ وما جدوى الزوابع المثارة في الحياة الثقافية؟
عن الشعرواي وأحمد خالد توفيق
هل يمكن أن يوضع كل من الشيخ الشعراوي والكاتب أحمد خالد توفيق في سلة واحدة؟ قد تكون الإجابة نعم، إن رمنا الوقوف على ما تبرزه حالة الجدال بشأنهما من توصيف لعلات المثقفين في الوقت الراهن.
في الأيام الماضية، تجدد الجدال حول القيمة الأدبية التي تمثلها كتابات أحمد خالد توفيق، ولم نشهد نقاشات إلا فيما ندر، وإنما تراشق بين فريقين؛ أحدهما يضفي هالة التقديس على الراحل وأعماله ويراها غير قابلة للنقد أو الانتقاص من قيمتها وأخر يُسفه منها ومن كاتبها بل ومن كل قارئ لا يتخذ موقفًا ناقدًا لها.
تلك الحالة من الدوجمائية الثقافية يمكن معاينتها بوضوح في النقاشات التي ينخرط المثقفون بها بينما قليل منهم يقف ليُحلل ما يعنيه كل هذا اللغط.
في مقال له، وقف الكاتب والروائي إبراهيم عبد المجيد على حالة الخلط التي تعتري التعامل مع كتابات توفيق، فكتابات أحمد خالد توفيق تدخل تحت بند روايات البوب واسعة الانتشار، وهي موجودة في العالم كله وتعتمد السينما عليها أكثر مما تعتمد على الروايات الأدبية العادية، لأنها أكثر جذبا للمشاهد، كما هي مع القراء.
أضاف عبد المجيد: هذا النوع من الروايات يجب عدم مهاجمته بالمقارنة بينه فنيا وبين الروايات العادية.. لا أحد يقارن في النقد بين أجاثا كريستي وتوماس هاردي، أو جيمس جويس، أو غيرهما من أعلام الأدب الإنكليزي.
في مقال آخر بصحيفة "إندبندنت"، رصدت الكاتبة أمينة خيري حالة الدوجمائية التي تسيطر على الفريقين في تعاطيهما مع المسألة قائلة: اللافت في كل مرة ينشأ فيها جدل أو تذكر سيرة الطبيب والكاتب الراحل منذ وفاته هو أن المعسكرين المتناحرين يهبان عن بكرة أبيهما بقدر أكبر من الاستنفار والتربص، والغريب أنه بين "ألتراس" الراحل من الرافضين تماماً لأي نقد وبالطبع انتقاد له، كثيرون ممن يقدمون أنفسهم في الساحات الأدبية والثقافية والإعلامية باعتبارهم من المستنيرين والمثقفين والنقاد.
على الجانب الآخر، ثارت حالة من الجدل في الأيام الماضية عقب الإعلان عن إمكانية تقديم أمسية مسرحية في شهر رمضان عن الشيخ الشعراوي ضمن سلسلة أمسيات تتناول رموز مصر عبر التاريخ، لتواجه الفكرة بسيل من المعارضات أبداها مثقفون وإعلاميون، لطالما تشدقوا بالحديث عن حرية التعبير.
عكست حالة الرفض جانب آخر من تعصب مثقفين لا يدركون من حرية التعبير سوى حريتهم في إبداء آرائهم وقمع الآراء المخالفة والحط منها.
في مقال بصحيفة "المدن" الإلكترونية يُلقي الكاتب والشاعر شريف الشافعي الضوء على كل ما تعنيه تلك المناقشات سواء حول أحمد خالد توفيق والشيخ الشعراوي، مشيرًا إلى أنها تعكس مظاهر التعصب الأعمى للرأي والتحيز اللاعقلاني والحط من شأن المخالفين وتحقيرهم وكيل الاتهامات لهم وربما تخوينهم وكذلك التحجر والتعميم ورفض النقاش الموضوعي القائم على المنطق والقرائن، وتحويل الاختلاف إلى معارك صوتية زاعقة.
وأضاف أن تلك المناقشات تعبير أيضًا عن الازدواجية، فهؤلاء المثقفين يتخفّون وراء قناع الحرية في حالة تصديهم للدفاع عن مطلب يوافق هواهم، فإذا انقلبت الآية، انقلبوا فاشيين لوأد كل يمكن أن يجري على غير رغبتهم ومطامعهم وانتهازيتهم.