رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إعلان مصر دولة هادئة عام 2023

وتبدأ صفحة جديدة من كتاب الزمان، زهرة أخرى، تطل من بستان الوجود ترى أن عرف القراءة، وهل نجيد فن التعامل مع الزهور؟ تمنحنا الحياة وقتًا إضافيًا لكي نثبت بالأدلة القاطعة أن بين ضلوعنا قلوبًا عاشقة خيرة عادلة ونستحق أن يمتد بنا العمر سنة أخرى.
كم هي كريمة الحياة وكم هي بنت أصل، صحيح تغاضت عن أفعال البشر التي تلوث جلد الكون بالدم وطفح الكراهية ودمامل الطمع، تسامحت مع الكذب والخوف والنفاق الذي يرفع حرارة هذا الكوكب، تناست أمراض التملك الغاشم والنزعات المستبدة لاحتلال الأرض والنساء والفقراء والكبرياء، تجاهلت ضحايا تناثرت أشلاؤهم باسم الجهاد في سبيل الله وتحت رأيه صحيح الإسلام والحرص على الدين والفضيلة أو ثأر للشرف الذكوري.
تغاضت عن سطوة اللهجة الدينية وإرهاب المشايخ وفتاواهم السلفية المتجهمة المضادة لكل ما هو مضيء ومشرق ومحفز للحرية، ولثقافة الاستمتاع بالحياة ولكل ما هو محرض على سفك دماء حضارة الفرح.
شكرًا للحياة التي نحولها إلى مقبرة لا حدود لها وسرادقات عزاء لا تنتهي ومع ذلك لا تيأس من إصلاحنا، شكرًا للحياة التي نذبح أشجارها ونسكب عليها غليان تعصبنا وحقدنا، ولا تزال تراهن علينا لعدل الميزان المائل.
ماذا أكتب مع بدء عام جديد؟ هل أرصد إحداث العام الماضي؟ لا أحب النظر إلى الخلف والتفتيش في جيوب الماضي، تختلط المشاعر وتتشكل داخلي آلاف اللوحات.
أرى وطنا غير الوطن، أتخيل رجالًا غير الرجال، نساء غير النساء، ضحكًا غير الضحك، حزنًا غير الحزن، أغنيات غير الأغنيات، قصائد تعلن حرية كل الأشعار، أمنيات غير الأمنيات، أخلاقًا غير الأخلاق، هدوء يلف الكون، وعشقًا يرفعنا إلى مجد الأشواق.
مع بداية كل عام تكبر سنوات عمري سنة وتصغر أمنياتي وأوهامي أزمنة، أعاهد نفسي بإل تجرفني الأمواج، وإن أظل نشوانة بسباحتي بعيدا عن شواطئ الصخب والتشابه والعيون المحدقة.
كل عام أقرر إلا ادع سلوكيات البشر تؤذني أو تغضبني ، بدأ عام جديد، وفعلًا كما تعودت، تقلصت الأحلام، وتواضع جدًا سقف رغباتي.
فعلًا، علمتني الأزمنة المتعاقبة على التواضع وعدم الشرود المحلق في سماوات المحال.
لم أعد أفكر في الأزمات الاقتصادية والسياسية والثقافية والإعلامية، لم أعد منشغلة بالمرض والموت وعدم السيطرة على خداع الأقدار، لم أعد مبالية هل يصدر كتابي الجديد- ديوان شعر- في معرض القاهرة 2023، لست مكترثة بتقلبات الطقس والبرودة في ليالي الشتاء، ولم أعد أهتم بقنوات الإخوان والسلفية، ووصلات البذاءة والردح الوضيع على السوشيال ميديا، ولا بمصير العولمة الرأسمالية، والحرب الروسية الأوكرانية.
ألم أقل إنني تعلمت التواضع، والنزول بسقف الأحلام؟
انكمشت تطلعاتي في عام 2023، ووصلت إلى الحلم بالهدوء وإعلان مصر دولة هادية قبل نهاية هذا العام، هل هذا ممكن؟ أم أتواضع أكثر وأكثر وأعتبر الصخب والضوضاء من المعالم المصرية، التي نرممها، ونستثمر فيها حتى لا تضيع هويتنا ونكون مقصرين في حق الأجيال القادمة؟
أريد الهدوء ولا شيئًا غيره ينغص حياتي في بلدي ووطني، الهدوء... الهدوء فقط لا غير، يا أقدم وأعرق حضارة في التاريخ.
ألم تسمع حضارتنا التي نعيش في خيرها حتى الآن عن حكمه عميقة نبيلة، راقية، تقول: "إن الإناء الممتلئ هادئ الصوت، بينما الإناء الفارغ يحدث صوتًا عاليًا".
مغزى الحكمة، أن هناك علاقة عكسية، بين وجود الشيء، والامتلاء الفعلى به، وبين حدوث الصخب، تنبع أهمية وخطورة هذا المعنى أنه يمتد ليشمل ليس فقط الأشياء، ولكن البشر، والحضارات أيضًا.
فالإناء الممتلئ هادئ الصوت، والإنسان الممتلئ هادئ الصوت، والحضارات الممتلئة هادية الصوت، وحين نتأمل حالنا- خاصة في الآونة الأخيرة- تصدمنا حقيقة سافرة الوجه أننا مجتمعات شديدة الصخب.
هناك كمية من "الزعيق" تحاصر حياتنا لا يبررها أي منطق، سوى أننا أصبحنا نعاني بدرجة مرعبة من "الخواء" الفكري والروحي.
إن "الخواء" يولد عدم الثقة ويفجر عدم الثقة – بدوره- أشكالًا مختلفة من التوتر، ويكون الصخب في الحوار، وفى السلوك، ضرورة نفسية لتفريغ شحنات التوتر، وأيضًا للتعويض عما هو غائب، ونفتقد إليه داخلنا.
كما أن الصخب- بحكم طبيعته التي تثير التشويش- يمنع صوت العقل الهادئ من الاشتراك في المجادلة، وكشف الحجج الواهية أو المفتعلة لأصحاب النبرة الزاعقة، وبالتالي يكون خير ميكانيزم دفاع عن وجود هش، مهتزًا لا يتحمل النقاش المنطقي الجاد.
أن الخواء كما أنه لا يستقيم مع الهدوء، لا يستقيم أيضًا مع التواضع، أن السنبلة الممتلئة بالقمح تكون في وضع انحناء، بينما تأخذ السنبلة الفارغة وضع الوقوف.
الإنسان (أو المجتمع) الممتلئ محصن ضد حماقة الاعتقاد، أنه خير الناس وخير المجتمعات ولا يهاب التعايش مع "الآخر" على قدم المساواة.
وعلى العكس فإن الإنسان (أو المجتمع) الخاوي لا يعرف إلا العلاقة العمودية التي تقوم بين "أعلى وأدنى" وبالطبع يكون "الآخر" أيًا كان هو "الأدنى" الذي يحتاج إلى التقويم والتصحيح.
وفى معاداة "الخواء" للتعايش السوى مع "الآخر"، فإن أصحابه يلهثون- في المقابل- لإيجاد أي شيء يمكن أن يتملكهم ويستقطب طاقتهم وغالبا ما يكون هذا الشيء هو التعصب لزعيم سياسي أو نجمة سينمائية أو عصر من العصور التاريخية الماضية أو لاعب كره قدم أو نمط صارم من ملذات العيش، المهم أن هذه كلها وسائل هروب لتفادى المواجهة المباشرة والحاسمة لحقيقة الخواء الداخلي.
عندما أقول إن أحلامي انكمشت واقتصرت على إعلان مصر دولة هادية خالية من الصخب والضوضاء والميكرفونات، فأنا أعنى مقياسًا رئيسيًا من مقاييس التقدم الأخلاقي والحضاري، وتفعيل صارم رادع لحقوق البشر في الهدوء المحيط بهم طوال الأربع وعشرين ساعة ليلًا ونهارًا لي مدى كل الأيام والشهور وعلى مدار العام.
سأترك كبرى الأحلام والأمنيات لغيري من الناس، أما أنا فسأكتفي بالهدوء، حينئذ إذا انتفت الضوضاء والصخب والميكرفونات وحل الهدوء ربما أستطيع التفكير بشكل أفضل وربما أحلم بأشياء أخرى.
من بستان قصائدي
قلبي مغزول
من خيوط الحرير
عقلي مصنوع
من قوالب الحديد
بين الحرير والحديد
أتقلب وأحتار
لكنني عن نفسي
لا أحيد
على خيوط الحرير
فوق قوالب الحديد
يرتمي أجمل الرجال
لكنني في أعماقي
أدرك إنك محطتي الأخيرة
وإنك وحدك بيت القصيد.