رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة ألمانية مهمة للنظام العالمى الجديد «٣»

الحرب الروسية الأوكرانية بالتأكيد هى الباعث الأهم، التى جعلت المستشار الألمانى أولاف شولتس يرى أن هناك «تحولًا جذريًا» يتعرض له النظام العالمى، لذلك طرح رؤيته التفصيلية فى مقاله بالمطبوعة الأمريكية «فورين آفيرز» حول قراءة إدارته ومن خلفها الدولة الألمانية، لتلك المتغيرات والتفاعلات، التى استلزمت وفق ما وضعه من إشارات إجراء تطوير كبير لاستراتيجيات الدولة الألمانية، وامتد بذلك لما يجب على الاتحاد الأوروبى ككيان وككتلة دولية فعله خلال المدى القصير والمتوسط للتجاوب مع المستجدات على مسرح العلاقات الدولية.

لم يغفل المستشار شولتس أهمية ومحورية عضوية بلاده فى حلف «شمال الأطلسى، لذلك وضع تصورًا وأفصح عن أدوار ألمانية تخرج للنور ربما للمرة الأولى، حين ذكر ضرورة ألا تؤدى تصرفات «الناتو» إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، لكن يتوجب على الحلف أن يردع بـ«شكل موثوق» أى عدوان روسى إضافى، لهذه الغاية، زادت ألمانيا بشكل كبير تواجدها على «الجناح الشرقى» لحلف الناتو، فى ليتوانيا عززت مجموعة قتالية تعمل تحت قيادتها وتتبع حلف شمال الأطلسى، من خلال أفراد لواء كامل لضمان أمن ذلك البلد. كما تسهم ألمانيا بقوات فى المجموعة القتالية لحلف شمال الأطلسى داخل سلوفاكيا، وبطريقة موازية تقدم القوات الجوية الألمانية مساعدة فى مراقبة وتأمين المجال الجوى فى إستونيا وبولندا. فى غضون ذلك؛ تشارك البحرية الألمانية فى أنشطة الردع والدفاع الخاصة بحلف «الناتو»، فى نطاق بحر البلطيق. وعن المستقبل تشارك ألمانيا فى المخطط العسكرى الجديد لحلف الناتو «NATO،s New Force Model»، بفرقة مدرعة إضافة إلى أعتدة جوية وبحرية مهمة جميعها فى حالة تأهب قصوى، من أجل تحسين قدرة الحلف على الاستجابة بسرعة وفاعلية لأى طارئ. كما ستستمر ألمانيا فى التمسك بالتزامها بترتيبات حلف «الناتو»، فيما يتعلق بتقاسم الأسلحة النووية.

ويوجه المستشار الألمانى فى مقاله فقرة من حديثه إلى الرئيس الروسى بالاسم، حين كتب يجب على بوتين أن يتذكر تلك الكلمات جيدًا، فإن رسالتنا إلى موسكو واضحة للغاية، تتمثل بأننا مصممون على الدفاع عن كل شبر من أراضى «الناتو» ضد أى عدوان محتمل. وسنحترم تعهد «الناتو» الرسمى بأن ينظر إلى الهجوم على أى واحد من الحلفاء بوصفه هجومًا على الحلف بأكمله. معتبرًا خطاب روسيا الأخير فى شأن الأسلحة النووية «متهورًا» وغير مسئول، كما اتفق على ذلك مع الرئيس الصينى شى جين بينج فى زيارة بكين نوفمبر ٢٠٢٢، هناك اعتبرا التهديد باستخدام الأسلحة النووية واستعمال مثل هذه الأسلحة المروعة، سيتجاوز الخط الأحمر الذى رسمته البشرية على نحو صائب. فمن بين حسابات خاطئة كثيرة أجراها بوتين، برز رهانه على أن غزو أوكرانيا سيؤدى إلى توتر العلاقات بين خصومه. فى الواقع، حدث العكس تمامًا. إذ أصبح الاتحاد الأوروبى والتحالف عبر الأطلسى أقوى من أى وقت مضى. أكثر ما يتجلى فيه هذا الأمر هو العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التى تواجهها روسيا، من الواضح منذ بداية الحرب أن هذه العقوبات يجب أن تبقى سارية المفعول لفترة طويلة، إذ إن فعاليتها تزداد كل أسبوع. على بوتين أن يفهم؛ أن أى عقوبة منها لن ترفع إذا حاولت روسيا أن تملى شروط اتفاق سلام. لهذا ألمانيا على أتم استعداد للتوصل إلى ترتيبات من أجل الحفاظ على أمن أوكرانيا كجزء من تسوية سلمية محتملة بعد الحرب. أساسها يقوم على عدم قبول الضم غير القانونى للأراضى الأوكرانية، المقنع بشكل سيئ باستفتاءات زائفة. لإنهاء هذه الحرب، يتوجب على روسيا سحب قواتها.

قدم المستشار أولاف شولتس؛ شرحًا وافيًا لقضية الطاقة ارتباطًا بما جرى على صعيد العلاقات مع روسيا، قبل الحرب الأوكرانية وما تم وما يستوجب عمله أوروبيًا بعدها. فوفق ما يرى، أدت الحرب التى شنتها روسيا إلى توحيد الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى ومجموعة الدول السبع فى التحفيز لإجراء تغيير فى سياسات الاقتصاد والطاقة. وهنا يكشف عن كواليس ما جرى فى ألمانيا عشية الغزو الروسى، فهو يبدأ مباشرة بعد توليه منصب المستشار الألمانى ديسمبر ٢٠٢١، بسؤال الفريق الذى يقدم له المشورة عما إذا كانت هناك خطة فى حال قررت روسيا وقف تسليم الغاز إلى أوروبا؟ فأجابوا بالنفى، رغم أننا أصبحنا نعتمد بشكل خطير على إمدادات الغاز الروسى. لذا بدأنا على الفور فى الاستعداد للسيناريو الأسوأ. فى الأيام التى سبقت الغزو الروسى الشامل لأوكرانيا، أوقفت ألمانيا التصديق على خط أنابيب «نورد ستريم ٢»، الذى كان من المقرر أن يزيد بشكل كبير من إمدادات الغاز الروسى إلى أوروبا. فى فبراير ٢٠٢٢، كانت ثمة خطط مطروحة بالفعل على الطاولة هدفها استيراد الغاز الطبيعى المسال من السوق العالمية خارج أوروبا، لكن سرعان ما أصبح السيناريو الأسوأ حقيقة واقعة، إذ قرر بوتين استعمال الطاقة سلاحًا عبر قطع الإمدادات عن ألمانيا وبقية أوروبا. استطرادًا؛ تخلصت ألمانيا الآن تمامًا من استيراد الفحم الروسى، وعلى نحو مماثل ستنتهى واردات الاتحاد الأوروبى من النفط الروسى قريبًا. ثمة درس تعلمناه مفاده أن أمن أوروبا يعتمد على تنويع موردى الطاقة وطرق الإمداد المستخدمة، إضافة إلى الاستثمار فى استقلالية الطاقة.

من أجل تعويض أى نقص محتمل فى الطاقة داخل ألمانيا وأوروبا ككل، يذكر المستشار الألمانى عدة خطوات تعزز هذا الاتجاه، بداية من إعادة المحطات العاملة بالفحم إلى الشبكة الكهربائية مؤقتًا، ثم السماح لمحطات الطاقة النووية الألمانية بالعمل لفترة أطول مما خطط له فى الأصل. كما أعطى توجيهات لمرافق تخزين الغاز المملوكة من القطاع الخاص، بأن ترفع تدريجيًا الحد الأدنى من مستوى الامتلاء. كما يقرر بأن حرب روسيا أظهرت أن الوصول إلى الأهداف الطموحة ضرورى من أجل الدفاع عن أمننا واستقلالنا، فضلًا عن أمن أوروبا واستقلالها. فيما سيؤدى الابتعاد من مصادر الطاقة الأحفورية إلى زيادة الطلب على الكهرباء والهيدروجين الأخضر، وتستعد ألمانيا لهذه النتيجة المتوقعة من خلال تسريع الانتقال إلى الطاقات المتجددة كطاقتى الرياح والشمس. إن أهدافنا واضحة، وهى أنه مع حلول عام ٢٠٣٠، سيأتى ما لا يقل عن ٨٠٪ من الكهرباء التى يستخدمها الألمان من مصادر الطاقة المتجددة، ومع حلول عام ٢٠٤٥، ستحقق ألمانيا صفرًا صافيًا من انبعاثات الغازات الدفيئة، بما يعنى الوصول إلى «الحياد المناخ»».

يبقى فى قراءة المستشار الألمانى أهم مرتكزات العمل الإقليمى والدولى فى ظل مشهد «التحول الجذرى».. هذا ما سنتناوله الأسبوع المقبل، بمشيئة الله.