«من تراث الأزهر».. مصطفى الصاوى يوضح تأثير احتكار السلع على المجتمع
نشرت مجلة الأزهر الشهرية التابعة لمجمع البحوث الإسلامية في عددها الصادر يناير 2023 ملف تحت عنوان "الممارسات الاحتكارية المعاصرة بين الشريعة والقانون" وشمل الملف عددًا من المقالات السابقة لإعلام الأزهر الشريف من تراث الأزهر الشريف.
وتحت عنوان «التضامن الاجتماعي» نشرت مجلة الأزهر مقالا للشيخ مصطفى الصاوي والذي جاء فيه ..
جِسْمُ الشخص الواحد أعضاؤه متضامنات، فإذا اشتكى عضو منها تداعت له سائر الأعضاء، وتعاونت على إمداد ذلك العضو بأنواع المساعدات، وتظل على ذلك الحال حتى يبرأ، وأفراد الأسرة الواحدة إذا ألمَّت بأحدهم كارثة، أو أصابته نعمة، كان الجميع مشتركًا في المساءة والمسرَّة بنسبة واحدة، والقرية الواحدة كذلك تكون وحدة متضامنة في النعيم والبؤس، إن كانوا حاصلين على درجة راقية من الأدب الاجتماعي، والشعب وحدة مؤتلفة، تشعر بارتباطها وتتخذ من جماعاتها فيالق، يتجه بعضها إلى العمل والإنتاج، وغيرها للتفكير والاختراع، وطائفة للحماية والدفاع، وهكذا.
فهذا العمل الذي تقوم به كل وحدة من تلك الوحدات، وتنساق إليه بغريزتها، هو التضامن الاجتماعي الذي هو سبب بقائها؛ فلو لم يكن تعاون بين أعضاء الجسد الواحد، ولا بين أفراد الأسرة، ولا بين جماعات الشعب كما ذكرنا؛ مرض الجسم ومات وانحلَّت وشائج البيت، وتفكَّكت أواصر وئامه؛ فيبطل ترابطه ويصبح فريسة للطامعين، فالتضامن الاجتماعي وسيلة لتيسير الحياة الإنسانية، وسبب للرقي والتطور، وأصل لمَجَادة الدول وارتقاء الشعوب.
قد تدخل قرية من القرى فتسمع ضجة كبيرة، وتشهد الوجوه مقطبة، والعيون حائرة، والأفئدة هالعة، فنبحث عن السر فتعرف أن أحد رجالاتها قد مات، وقد تزحمك السيارات والعربات والمطايا متجهات صوب بلد من البلاد على صورة غير عادية، فتسأل: ما الذي حمل هؤلاء الناس على ذلك التزاحم؟ فتعرف أنهم وفود من المهنئين، وإذا خلوت إلى نفسك وفكَّرت في الأمر لتعرف العلَّة الباعثة لهؤلاء على ما فعلوا؛ لعرفت أنه التعاون الإنساني الفطري، ولو سألت واحدًا من هؤلاء قائلًا: ما الذي حملك على إضاعة وقتك وإنفاق مالك، وليس مَن تسعى له من أقربائك، لأجابك من فوره وبلا رويَّة: إنه وحي الشعور، وعاطفة الإنسان نحو أخيه الإنسان، فتؤمن بأن الإنسانية إذا لطفت أحاسيسها صدر عنها كل خير وجميل، وهناك أمر آخر يدلك على أن التضامن فطري، فقد تشهد فردًا يسرف في ماله، وآخر يرشده إلى ترك الإسراف، ويعلمه مزايا الاقتصاد، ثم تسمع المسرف يرفض النصح، ويأبى الاسترشاد في قِحَّةٍ وعنف وسوء أدب، فتقول للناصح له: وماذا يضرك من إسرافه، وما الذي يؤلمك لو افتقر وأفلس، فيجيبك من فوره قائلًا: أليس هو واحدًا منا؟ ألا ترى أنه سيصبح عالة على المجتمع الذي أنا أحد أفراده؟ فترى نفسك أمام جواب متفلسف حكيم.
وهناك نوع آخر أيضًا؛ فالزكاة التي فرضها الله على الناس إنما كان تشريعها إرشادًا إلى التضامن الاجتماعي، فليس السرُّ في تشريعها عونَ الفقير وسدَّ حاجة المحتاج فحسب، كما علل بذلك بعض الناس، وإنما شرعت لتكون حصنًا يأوي إليه كل فرد عركته الأحداث، وضرسته الخطوب، فخرج من معركة الحياة هزيمًا، فإذا لم يجد حصنًا يأويإليه فإنه لا شكَّ هالك ويَهلك معه كثيرون.
ألا ترى أن حظ الغني من تلك الشرعة كحظ الفقير سواء بسواء؟ إذ إن الغني لا يضمن بقاء الغِنَى، والقوي اليوم لا يعرف ما خبأه له القدر المستور المغيب، فقد تُفاجئ الغنيَّ أحداثٌ تجرده من كل ما يملك، فلا يجد مأوى سوى حصن الزكاة يلجأ إليه؛ ليستعيد قوته ونشاطه، ويعود إلى صراع الأيام ليظفر بالحياة بعد.
وهاهو ذا نوع من أنواع التضامن الاجتماعي، فإن الفرد من بني الإنسان قد يعتزم ارتكاب جريمة، فترى الجمهور قد اتجه يدًا واحدة وقلبًا واحدًا يدفعه عنها، ويمنعه ارتكابها، وتلك الجريمة لو وقعت إنما يقتصر ضررها على فرد واحد أو فردين، فتقول: ما الذي دفع هؤلاء إلى تلك الثورة والتضحية في سبيل منع وقوع الجريمة؟ فتسمع الجواب أن أخًا في الإنسانية سيصاب بمكروه ومن واجب الإنسانية دفع الشر عن الإنسانية، فتشهد تضامنًا اجتماعيًّا من أدق الأنواع.
إنَّ القاضي الذي يَفْصِل بين الناس في أقضيتهم فيحكم بالسجن أو بالإعدام أو بالغرامة محققٌ لمعنى هذا التضامن الاجتماعي؛ لأنه يطهِّر جسم المجتمع من الشرور والمفاسد، ويقدم للهيئة الاجتماعية إنسانًا كاملًا، أو يريحها من إنسان شرير إذا بقي حيًّا أمات العشرات والمئات.
والطبيب الذي يعمل مبضعه في جسم المريض فيمزقه بين صراخ وبكاء، ليخرج منه الداء العقام، متضامن مع الهيئة الاجتماعية كذلك؛ لأنه أنقذ فردًا من أفرادها كان عرضة للهلاك، فلم يفقد المجتمع أحد أفراده.
وكلُّ جماعة أدبية تتألف في المجتمع، تعتبر متضامنة مع المجتمع في تطهير جسم الشعب من عادات قبيحة، وتعويد أفراده أحسن العادات، وتجميله بأفضل الشيم والأخلاق، كل هؤلاء وأولئك متضامنون تضامنًا اجتماعيًّا لا مرية فيه، أرأيت لو أن الناس لم يتآسوا في أفراحهم وأحزانهم، وتركوا الناس يعبثون بأموالهم، والمجرمين ينفذون ما اعتزموه من الجرائم، والقاضيلم يَفْصِل بين الناس بالقسطاس المستقيم، والطبيب لم يؤدِّ واجبه، والجماعات الأدبية لم تؤدِّ رسالتها، أكان الناس يهنئون في الحياة وينعمون بما نرى ونشهد من حضارة ونظام؟! أعتقد أنه لم يقم كل فريق بما يحتمه عليه واجبه في الحياة، لانقلب نعيم العيش بؤسًا، واستحال اليسر والرخاء عسرًا وشقاءً، وما كان عمل كل هؤلاء إلا تضامنًا اجتماعيًّا دعت إليه الفطرة وحتَّمته الطبيعة.
وقد أُلهِمَتْ هذا التضامن الحيوانات العجماء، فكان سلاحها في الحياة ووسيلتها إلى العيش، إن دولة الذئاب في أوربا إذا اشتد بها الجوع تكونت زمرًا وجماعات، أغارت على القرى تتطلب القوت.
ثم ألم تر إلى تلك الكرة الطافية على وجه الماء تدور حول نفسها، وقد تكونت من أفراد النمل فسلمت من الغرق؟ إن تكورها وسيلة للسلامة من الغرق، فلو لم تتكوّر وظلت متفرقة لطغى الماء عليها فهلكت. وإن دورانها حول نفسها تضامن اجتماعي من أدق أنواع التضامن، ألا ترى أنّ القسم الأسفل الملامس للماء عرضة للموت بإسفيكسيا الغرق، فإذا ما دار وبرز من الماء إلى الهواء سلم من الموت، فينزل مكانه القسم الأعلى حتى إذا ما أشرف على الاختناق كان في طريقه إلى الصعود، واستنشاق الهواء والسلامة من الغرق.
وإن لنا في مملكتي النحل والنمل لعبرة، ففي توزيع الأعمال لديها، وتنسيقها، واختصاص كل فريق بعملٍ لا يتخلّف عنه، دليل على التضامن الاجتماعي، فما ذكرت من تلك الألوان الكثيرة في التضامن الاجتماعي يبيّن حقيقته وأنه ضروري للحياة.
ولما كان التضامن الاجتماعي أنواعًا كثيرة، أردت أن أسرد طائفة منها، لأنفذ من ذلك إلى المقصود لي من التناهي عن المنكر، والتواصي بالخير والبرِّ، فأقسام التضامن منها:
(1) التعاون عند الملمات، والمشاركة في المسرات.
(2) العمل على جلب البر للإنسانية ودفع الضر عنها.
(3) الإحساس بألم الإنسانية، والشعور بمساءتها، إحساسًا وشعورًا يدفعان صاحبهما إلى دفع الألم والمساءة عن الممنوِّين بهما.
(4) الدعوة لإصلاح الأوضاع الملتوية، والنظم المعوجة.
(5) التواصي بالخير، والتناهي عن المنكر.
والمعني لنا من هذه الأنواع هو النوع الأخير الذي نوه الله في كتابه؛ إذ يقول في قومٍ هالكين:
(كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
(المائدة: 79)،
ويقول جل من قائل:
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)
(الأنفال: 25)
فهذا القرآن الكريم يحث على التضامن ويبين أن التخاذل سبب في البلاء، وتحلل الأمم، وتدهور الشعوب، فما تضامنت أمة إلا سلمت وارتقت، وما تخاذلت أمة إلا تفرقت كلمتها، وذهب ريحها، وأصبحت أحاديث.
نحن هنا في الشرق العربي مهد الحضارات، ومبعث النبوات والهدايات، فمن واجبنا أن نكون في طليعة الدول المتسابقة في مضمار الارتقاء، ولن يكون لنا هذا إلا بالتضامن الاجتماعي، وهو مصدر الخيرات والبركات.