رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا تدعو الفن "ملطشة" للمزاج الإخوانى السلفى

أؤمن مثل الكثير من الفلاسفة والعلماء والمفكرين نساء ورجالًا، أن «كل شىء مرتبط بكل شىء» وهذا معناه عدة أمور أساسية هى:
أولًا: ليس هناك ما يمكن أن نسميه قضية تافهة وقضية مهمة.
ثانيًا: توجد قوانين للتغير والحركة والتطور تطبيقها على كل الموجودات وصفتها الأساسية عدم الثبات.
ثالثًا: الفصل بين الظواهر هو فصل تعسفى، وهو ليس فقط خطأ علميا لكنه يقود بالضرورة إلى الجهل والتضليل وعدم المعرفة والتجزئة والتفسيرات غير الصحيحة، والتى تؤدى لعدم الفهم، وعدم الفهم يقتل الإبداع ويرسخ الخرافات ويخفى آفاق التقدم ويعطلها.
من هذا المنطلق سأعرض قناعتى أن الديمقراطية والفن مرتبطان كل الارتباط.
تكتسب الديمقراطية أهميتها القصوى في مسار تاريخ الشعوب من كونها القضية الأكثر تجسيدًا للعدالة بين البشر وترسيخًا لقيمة الحرية في الممارسة العملية، أما الفن بجميع أشكاله فهو تصور جمالي لعوالم أخرى، إن الفن يوجد لنا مجموعة من الرؤى لا تختص فقط بالحاضر والمستقبل ولكن أيضًا بالماضي.
وإذا كانت ملكة التخيل، موجودة عند كل البشر لكنها أكثر حضورًا وإلحاحًا عند أهل الفن، والتخيل هو الذي يجعل الفنان أو «الفنانة» بطبيعته ضد كل الثوابت والبديهات، الفن هو التساؤل الدائم المتجاوز كل إجابة، والفن يضع قوانينه الخاصة ويوجد طرق تذوقه والنظر إليه.
يتضح من هذه المفردات المميزة للفن، أنه يفترض منذ البداية، حدًا أدنى مرتفعًا من ضمان حريات التعبير والترحيب بكل أنواع الاختلاف وعدم الخوف من التساؤل، وهي كلها من سمات مجتمعات الحرية والديمقراطية.
نحن نتعلم من الفن كيف نسعد بالقصص والروايات وكيف نستمتع باللوحات والموسيقى الصادرة من عقل وعاطفة آخر، أعظم ما يميزه هو تمرده علينا نحن المتلقون له.. أليس هذا تدريبًا جميلًا على الديمقراطية؟
إن أرض الفنون مفتوحة الحدود لكل الناس ولا تشترط تأشيرات للدخول أو إجادة لمؤهلات معينة، اللهم إلا التحرر من كل التحيزات المسبقة والرغبة في الانفتاح علي عوالم مغايرة، هذا الترحيب المتاح للجميع، أليس هو المساواة بين البشر في أعلى وأرقى معانيها؟
لكننا بين الحين والآخر، نشهد نقاشًا عقيمًا عن العلاقة بين حرية الفنان، وحرية المجتمع، حيث يقول البعض إن للفنان حريته، بشرط ألا يمس حرية المجتمع. البعض يرى حرية الفنان محمودة، طالما أنها لا تصدم المألوف والسائد في المجتمع، مثل هذه الأقاويل، تسيء فهم الفنان، والحرية فليست الحرية، كتلة مادية ثابتة، إذا أخذ منها الفنان، سينقص نصيب المجتمع منها.
إن المجتمع حر، قدر ما يضمن، ويرسخ حريات الأفراد، خاصة حريات أهل الفن وهذه إحدى المفارقات الجميلة لعطاء الحرية، كما أن الحرية متغيرة، وبالمثل ما نسميه المألوف والسائد، فإذا اتفقنا على أن الحياة في حركة نمو مستمرة، وكذلك البشر.
فإن الحرية تنمو بالضرورة هي الأخرى والمجتمع الذي يريد البقاء، والازدهار لا بد أن يساير هذا النمو، وأن يعيد باستمرار مفهومه للحرية، ورؤيته لما هو مألوف، وسائد إن أي تقدم حققته الإنسانية، يمكن تعريفه بأنه الغربلة المستمرة للمألوف، وإعادة صياغة للسائد.
إن التخوف الشديد الذي يظهره البعض، من حرية الفنان على المجتمع لا محل له، إن الفنان مشغول أكثر من غيره، ببناء عالم أكثر جمالًا وشجاعة وعدلًا، ولذلك فإن إبداعه لا يقلب الأشياء ولكن يعدلها وهو لا يخرب ولا يفسد، لكنه يعمر ويبنى وهذا يستلزم بالضرورة البدء في هدم الظلم والقبح، لإقامة العدل والجمال.
إن معاداة الفن أو محاولة تقليص مداه وآفاقه، هي في الوقت نفسه معاداة للديمقراطية، فالمجتمع الذي يتشكك في الفن، ودور الفنان، هو في اللحظة نفسها، يجهض نهضته المادية، والروحية على حد سواء من هذا المنطلق، لا تكون الحرية، حقًا من حقوق الفنان، يضمنه المجتمع ويدعمه لكنها أيضًا واجب على الفنان، لتحقيق رسالته نحو ذاته ونحو مجتمعه والإنسانية.
إن كل قصة أو قصيدة أو قطعة موسيقى أو لوحة إنما هي درجة على سلم الحرية يصعدها أهل الفن، ويشدون معهم الآخرين في حوار جمالي، وتفاعل فكري بين طرفين، تمنحهما الحياة أغنى مكنوناتها.
في المجتمعات التسلطية بجميع أشكالها ودرجاتها حيث القهر هو النغمة السائدة، يتعثر هذا الحوار الجمالي، والتفاعل الفكرى، ويخاف أغلب الأفراد من الحرية إن الإنسان أو المجتمع الخائف من الحرية، يتقبل أي تشخيص أو تبرير لحالته لكنه لا يتحمل أن يوصف بالخوف من الحرية، لأن ذلك يعنى الخوف من الحياة ذاتها، بكل ما تحمله من إمكانات النمو، والانفتاح، والمعرفة، والسعادة. 
ولكن وكما قال سارتر في بداية روايته الغثيان: المصيبة أننا أحرار.. أي أن الحرية، هي قدرنا مهما حاولنا الهروب منها. والفن الحقيقي، خطوات مضيئة نحو هذا القدر، وعلى المجتمعات الطامحة للديمقراطية، والتحرر، أن تتعاون مع الفن بشكل جاد ومستمر لتحقيق ذلك.
لكننا فى الفترة الأخيرة، حيث أصبح المزاج الشعبى الفنى والثقافى إخوانيًا سلفيًا وهابيًا، نجد أن الفن فى بلادنا كُتب عليه «القهر» رغم أنه صانع الحياة بالضبط مثل المرأة كُتب عليها «القهر» وهى واهبة الحياة.
حب الفن والكلام عن أهميته من الشعارات التى ننام ونصحو عليها، أسمينا القاهرة «هوليوود الشرق» بينما فن السينما محارب من جنود الدولة الدينية بكل أطيافها، النشطة والنائمة والكامنة تحت الجلد.
ونقول إن «نهضة وترسيخ القوة الناعمة هما النهضة الحقيقية»، وهى يتم إضعافها كل لحظة من الإخوان والسلف الصالح وغير الصالح، فالواقع يشهد يوميًا أن الفن أصبح «ملطشة» للمزاج الشعبى الإخوانى السلفى الوهابى.
وهذا المزاج «المسيس» بأهواء إخوانية وأفكار سلفية وقناعات وهابية، يكره أصلا الفنون بكل تنويعاتها ويعاديها جهرًا يشتمها ويشتم أهلها بالبذاءات واللعنات خاصة من النساء، وهو ينتظر «السقطة واللقطة» لكى يصف الفن وأهله، بالفسق والفجور وإفساد الفضيلة والعادات والتقاليد وقلة الدين وعدم الخوف من ربنا وعذاب جهنم فى الآخرة مزاج شعبى يهلل فرحًا عندما تعلن فنانة الاعتزال من الفن والتحجب وعندما يعلن فنان توبته عما ارتكبه من إبداع.
هذا هو المزاج الشعبى الفنى الثقافى السائد منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى ولكن ماذا عن الدولة؟ لا بد أن تقف داعمة للفن متضامنة معه، لا بد أن تتدخل وتلغى الرقابة الإخوانية السلفية الوهابية، التى تفرض الوصايا على الفن المقدم للناس على الدولة أن توقف بالعمل على أرض الواقع بكل الوسائل، محاكم التفتيش الأرضية والفضائية التى تسب الفن ليل نهار، وخصصت له لجانًا إليكترونية تتفرغ لهذه المهمة.
أعتقد أن الدولة إذا اهتمت بفئة المبدعات والمبدعين فى كل مجالات الفن، بشكل يجعل منهم نساء ورجالًا من مكونات صنع القرار فى أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة، فسوف يُحترم الفن والإبداع ولن يصبح «الحائط المائل» للقذف بالحجارة.
من الضرورى أن يكون للفنان والفنانة كرامة مساوية لكرامة رجال ونساء المناصب المرموقة والمناصب العليا، نترك الفنانة أو الفنان يعانى من الشيخوخة والاكتئاب والكآبة التى فى حقيقتها ليست شيخوخة وليست عجزًا عن العطاء، ولكنها نتائج طبيعية إهمال المجتمع وحجبه عن المشاركة والحكم عليه بالإعدام على فراش الوحدة والتجاهل وعدم العرفان بالجميل، والمعاش الضئيل «قلة القيمة» المقرر من الدولة وبعد الموت ناقص العمر والتحقق والبهجة، نشيعه وننعيه بأسى وحسرة بدموع التماسيح.
الفن والحرية فى ارتباط عضوى وثيق أكثر مما نظن أو نتخيل.
من بستان قصائدى
أترك باب شقتى «مفتوحًا قليلًا».. ربما
أترك باب غرفتى «مفتوحًا قليلًا».. ربما
أترك باب قلبى «مفتوحًا قليلًا».. ربما
ربما.. ربما.. ربما
ولا شىء يدخل شقتى وغرفتى وقلبى
إلا «الخواء».