رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسلحة التخريب الشامل هل «تهدم المعبد» فى أوكرانيا؟

الحرب الروسية الأوكرانية بدأت تقليدية على غير المتوقع، على الأقل من الجانب الروسى الذى يصنف من القوى العسكرية الكبرى فى العالم، لذلك كان منطقيًا أن تسود التوقعات بأن خطط الجيش الروسى العسكرية لا بد لها أن تشهد أنماطًا جديدة وتطورات عديدة، حيث ظنت الغالبية من الخبراء العسكريين والمراقبين أن الساحة الأوكرانية ستكون محل استعراض لنوع من التكتيكات الجديدة، التى يمكنها بأقل جهد تسليحى وبشرى من تحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب.

وقائع الأشهر الأولى للحرب أخلفت تلك الظنون، وسارت بالتوقعات إلى مسار آخر، غلب عليه النمط التقليدى الذى عُد فى حد ذاته أحد أسباب التعثر الروسى، وعكس الكثير من الدلالات، كما أثار التساؤلات عن حدود جاهزية الجيش الروسى لخوض «حرب غير تقليدية».

هذا التقدير العام لا يعكس بالضرورة انخفاضًا فى حجم الدمار الذى أحدثته الحرب، بل يظل العكس هو الصحيح وأكثر ارتباطًا بالصورة الواقعية لما جرى خلال ثمانية أشهر من عمر العمليات العسكرية المباشرة. هذا الأسبوع دعا الرئيس زيلينسكى إلى ضرورة تقدم المجتمع الدولى كى يقوم بتغطية عجز متوقع فى ميزانية أوكرانيا يقدر فى حده الأدنى بـ٣٨ مليار دولار، فقد ثبت أن الصواريخ الروسية والطائرات المسيرة الإيرانية دمرت أكثر من ثلث قطاع الطاقة فى أوكرانيا خلال أسبوعين فقط. 

«أورسولا فون دير لاين» رئيسة المفوضية الأوروبية ذهبت إلى أبعد من ذلك، فى مؤتمر لإعادة إعمار أوكرانيا منعقد فى برلين هذا الأسبوع، قررت أمام الحضور أنه ليس هناك وقت يمكن إضاعته، فحجم الدمار الهائل قدر البنك الدولى تكلفة الأضرار منه حتى هذه المرحلة من الحرب عند ٣٤٥ مليار دولار، ولذلك المفوضية تعمل بدأب من خلال هذا المؤتمر على إطلاق منصة تنسيق دولية لإعادة الإعمار، على أن يتم الاتفاق فور انتهائه على توفير أمانة تختص بهذا الشأن على نحو عاجل. جاء ذلك بعد أن قدم البنك تقريرًا مفصلًا حدد طبيعة الأضرار التى تمثلت فى تدمير ١٢٠ منزلًا، و١٦ ألف مبنى سكنى حتى سبتمبر ٢٠٢٢، مقررًا أمام الحضور من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبى أنه تمكن حتى الآن من جمع ما إجماليه ١٣ مليار دولار من التمويل الطارئ لأوكرانيا، فى حين يظل المتبقى من رقم «٣٤٥ مليار دولار» مرهونًا بقدرات أعضاء الاتحاد وغيرهم من الدول المساندة على توفير التمويل المطلوب.

الجديد بعد كل هذا الحجم من الدمار الهائل ما يتردد كاتهامات متبادلة بين الطرفين الروسى والأوكرانى، حول الاستعداد الغامض لاستخدام «قنبلة قذرة» خلال الأيام المقبلة. الجدير بذكره أن هذه القنبلة لا تصنف باعتبارها سلاح «دمار شامل»، فالثابت أنها قد تكون قنبلة تقليدية تحوى «مواد مشعة»، بهدف نشر تلك المواد على شكل غبار عند وقوع الانفجار، حيث يشير مصطلح «القنبلة القذرة» إلى جهاز التفجير القادر على نشر واحد أو أكثر من المنتجات السامة «الكيميائية، أو البيولوجية»، ويستخدم فى ذلك متفجرات تقليدية كونها أقل تعقيدًا فى صنعها من الطرازات غير التقليدية. كما يشير المصطلح أيضًا إلى «جهاز التشتيت الإشعاعى RDD» باعتبار الأثر الثابت منه أنه يتسبب فى تلويث منطقة جغرافية بعينها، مما يصيب الناس الموجودين فيها بإصابات عالية الخطورة، عن طريق الإشعاعات المباشرة، وعبر الاستنشاق أو ابتلاع المواد المشعة، لذلك ولكى تنتشر المادة المشعة الموجودة فى هذا النوع من القنابل القذرة عبر المنطقة المستهدفة، تحتاج إلى تحويلها لمسحوق، حتى تصبح جزيئات المادة المشعة ناعمة جدًا، ومن ثم تنطلق مع الرياح القوية، لتنتشر على نطاق واسع جدًا، لتتسبب فى الكثير من الضرر.

اللجنة التنظيمية النووية الأمريكية صنفت «القنبلة القذرة» باعتبارها سلاح «تخريب شامل» كونه يحقق عملية «التلويث» على الأرض، فضلًا عن نشر حالة من الإخافة والذعر لدى عموم الناس المحيطين والمحتملين. المؤكد بالطبع أن الأشخاص القريبين جدًا من موقع الانفجار، سيتعرضون لإشعاع يكفى للتسبب بأمراض خطيرة، مع ذلك احتمالات انتقال الغبار والدخان المشع إلى مسافة أبعد تبقى مرجحة طوال الوقت، لهذا يظل التهديد واسع المدى للحد الذى لا يمكن حصاره بصورة أو بأخرى. الواقع العملى أثبت أن المواد المشعة التى يمكن استخدامها فى هذا النوع من القنابل موجودة فى المستشفيات والمؤسسات البحثية، وفى المواقع الصناعية أو العسكرية، لذلك يتصور أن الحصول عليها لن يكون بأسعار باهظة لو توافر قدر يسير من «الفساد»، وخلال أحداث الحروب الممتدة مثلما الحال فى الحرب الروسية الأوكرانية، تنشط أجهزة الاستخبارات العسكرية عادة من أجل الوصول إلى جهات توافر مثل تلك المواد، إما بالرضا المصحوب بالفساد، أو بالإكراه والانتزاع عبر استخدام القوة القاهرة.

هذه المرة من فتح تلك الصفحة حذر وزير الدفاع الروسى «سيرجى شويجو» فى اتصاله المفاجئ بنظرائه وزراء دفاع الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا والمملكة المتحدة، بأن الجيش الروسى لديه مخاوف عميقة، بعد توافر معلومات تفيد بأن أوكرانيا تستعد لاستخدام سلاح «القنبلة القذرة». فى الوقت الذى لم يقدم شويجو أى قرائن أو أدلة على هذه المزاعم، رفضت كل هذه الدول مثل هذا الاتهام، وأصدرت بيانًا مشتركًا عبرت فيه عن ذلك. فور وصول هذا الأمر إلى السلطات فى كييف، سارعت بتقديم تفسيرها عبر نقل الاتهام لموسكو بأنها طالما قامت بهذا العمل المسرحى على النحو السالف، فهى بالضرورة تتجهز لاستخدام هذا السلاح، وما هذا الاتصال غير المتوقع سوى تمهيد ونوع من إثبات وتسجيل موقف مخادع من وجهة النظر الأوكرانية.

الدول الغربية توصلت إلى تفسير أولى لاتهام وزير الدفاع الروسى، الذى حرص على إيصاله فى هذا التوقيت من عمر الحرب، أنه جاء سعيًا على الأرجح إلى إبطاء أو تعليق المساعدة العسكرية الغربية لأوكرانيا، وربما يبدو أيضًا موجهًا إلى «حلف الناتو» من خلال دعوات الإرباك والتخويف لأعضائه. فهذه الدول وقياداتها العسكرية لا تنحاز بشكل كاف للتفسير الأوكرانى، حيث تستبعد حتى الآن أن تكون روسيا بهذا التهور، بالنظر إلى الضرر الذى يمكن أن تلحقه «قنبلة قذرة» بقواتها وبالأراضى الواقعة تحت سيطرتها. لهذا سيظل المؤشر الميدانى هو المقياس الذى يمكن عبره تصور أو توقع لجوء أى من الطرفين لهذا السلاح الخطير، وللأسف كلاهما يملك التقنية الرخيصة اللازمة لهذه الأنواع من الأسلحة، كما لا تنقصهما الإرادة فى حال استشعار أى منهما احتياجه لخيار «هدم المعبد» الذى لن يختلف كثيرًا، عما ستئول إليه الأمور حينها.