حسني حسن 2/1: التسعينيين أفنوا حياتهم في وهم التحرر.. والمؤتمرات لا تشرف كاتبًا حقيقيًا (حوار)
حسني حسن، الكاتب والروائي، الذي تمرد على الكثير من التقاليد البالية سواء في الحياة أو الكتابة، فصنع لنفسه نموذجا واحتذى بنفسه، كما تمرد سرديا فراح يدمج الفلسفة بكتاباته عبر سرد مغاير نبع من وعي بعالم الكتابة.
حسني حسن الذي تخطى عامه الستين، راضياً منتشياً بفرح الكتابة، مستسلماً لأهوائه فقط غير مكترث بالتصنيف ولا فحوى النقد ولا حتى الانتماء لثمة تيار كتابي، رافضاً وبشكل حاد وقاطع الدخول في متاهات الشللية، وأن يكون نفسه ولنفسه فقط، “الدستور” التقت حسني حسن وكان هذا الحوار..
_الكاتب حسني حسن والذي بدأ يسارياً بحركة طلاب جامعة القاهرة، كيف ترى اليسار المصري الآن وكيف ترى حصاد الأيديولوجيا؟
أجل، كان ذلك قبل نحو أربعين سنة. وكنتُ في تلك السن التي تتعاظم فيها الأحلام، وتتضاءل معها المخاوف والشكوك. هي سنٌ، وبمعنى ما، موهوبة للإيمان، ومفطورة على حب الفداء والعطاء وربما التوق للشهادة. وقناعتي الشخصية أن الإيديولوجيا هي الوجه الآخر لما نطلق عليه الإيمان. قد تكون الوجه الأشد إعتاماً، أو قسوة، لكنه وجه حافظ لقوام، ولهوية، بل ولغائية، المسعى الإنساني، بالرغم من كُلفته الباهظة، إنْ عند الانتصار أو الانكسار، على السواء.
عقود أربعة طويلة لاهثة صب التاريخ في مجاريها الكثير من المياه، وأدارت رياح تغييراته العاصفة طواحين الأفكار والأحلام والأوهام. ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، سمعتهم يروحون ويجيئون بترجمات مطاع صفدي الرديئة لكتب فوكو العميقة. كانوا يرددون منها، على أسماعنا، جُملاً مدهشة، عن القطيعة المعرفية وموت الإيديولوجيا. أكاد أجزم أن كاتبها، ذاته، لو أنه قُدِر له أن يسمعها، لأنكرها وتبرأ منها، كونها، وببساطة، فارغة من أي معنى؛ فلسفي كان، أمْ أدبي. تابعت عجزهم عن استكمال جملة مفيدة باللفظ المنطوق، فيلجأون لإتمام ما أرادوا توصيله، من معنى، أو من تأثير عاطفي، من خلال حركات الأيدي والأجساد وزيغ النظرات وتفصد الجباه بالعرق الغزير.
_ وماذا عن رؤيتك لجيلك من الشعراء التسعينين وموقفكم من الأيديولوجيا ووهم التحرر؟
لأصدقائي الشعراء التسعينيين، أولئك الذين أفنوا حيواتهم غاطسين في وهم التحرر من الأيديولوجيا والتبشير بالنجاة، أقول: ليتنا كرسنا طاقتنا النقدية هذه في مسعى جاد، وعقلاني، لمحاولة تحديد مواقعنا الحقيقية الصغيرة، وكذا مواقفنا الجذرية الدراماتيكية، ضمن دراما القطيع الإيديولوجي الكلي، بدلاً من هدرها، هكذا دفعة واحدة، وعلى نحو مجاني مؤسف، في توهم إمكانية الإفلات من شِباك هذه الدراما الإيديولوجية الوجودية، حيث لن تهبنا الأوهام المُستَجدة ما هو أكثر مما منحتنا قرينتها القديمة، أعني مجرد مصيدة إيديولوجية أخرى. قد تكون أذكى تمويهاً، لكنها ليست، وبأية حال، أهون حزناً، ولا أقل شقاء؛ ففي هذا العالم، الذي نحبس فيه الأنفاس مرعوبين من خطر الانزلاق إلى محرقة نووية شاملة، تبدو محتملة للغاية ووشيكة، جراء صراع، يلوح غير إيديولوجي، ما بين رأسمالية متوحشة معولمة ذات طابع إمبريالي، ورأسمالية متوحشة وطنية ذات طابع فاشي، أقول في مثل هذا العالم لا أجد مناصاً من استرجاع نبوءة تروتسكي التي حذر فيها قائلاً إنه: إما الاشتراكية، وإما البربرية، لأصحح المقولة: إما الاشتراكية الإنسانية، وإما فناء الإنسانية. أما أصدقائي الشعراء التسعينيين، ومَن بعدهم، فأقول لهم ثانية إن الجميع غرقى، لمجرد القدوم لذاك الحفل، وانزلاق أقدامنا فيه بصرخة ولادة واحدة لا اختلاف فيها ولا مغايرة، فلماذا تتوهمون أنكم، وحدكم، الطافون؟
_عن مسيرتك الإبداعية في المسرنمون واسم آخر للظل ويتامي الأبدية وتلك المسارات المتقشفة وكثيرة التأويل في غالبية نصوصك التجريدية، أين أنت من الأوساط الثقافية والإبداعية؟
أنا كاتب مُقلٌ بطبيعتي، كما تعرف؛ ستون عاماً، وستة كتب منشورة تتوزع ما بين الرواية، والقصة القصيرة، والنقد السيري، والشذرات التأملية ذات المنحى الفلسفي، أمَا غير المنشور بعد فقد يماثلها عدداً. المهم أني لا أستعجل شيئاً، بل وحتى لا أنتظر، من وراء ما أجترحه من كتابات، شيئاً، ربما التعرف الأعمق على نفسي والوجود، وحسب، حيث أعتبر مسيرتي، الحياتية والكتابية على السواء، نزوعاً قهرياً، بمعنى ما، لسبر أغوار هذه النفس، ومحاولة فهم ذاك الوجود، وأيضاً، وكما قال إبسن، لإدانة الذات والموضوع في جلسة محاكمة علنية ممتدة. من هذا المنطلق، أراني لا أحفل بما أسميتموه أنتم الأوساط الأدبية، وحتى لا أعرف أين هي تلك الأوساط الأدبية؟ فإذا كنتم تقصدون النقاد الأدبيين، فيؤسفني القول إنني لم أعد أرى لدينا أي نقاد للأدب، بالمعنى الدقيق للكلمة، فقط مراجعات سريعة مبعثرة متناثرة واحتفالية، من وقت لآخر، هنا أو هناك. أما إذا كنتم تشيرون إلى الصحافة الثقافية فيؤسفني الادعاء أنها ميتة إكلينيكياً لأسباب تتعلق بانحدار قيمة المهنية لحساب الشللية والمزاجية، وربما ما هو أسوأ منهما، أعني المصالح الشخصية. أما إذا كنتم تعنون حفلات الذكر والتسبيح بحمد الكُتاب والكاتبات، تلك التي باتوا يطلقون عليها أسماء من طراز المختبرات السردية، أو الورش الأدبية، أو المهرجانات الشعرية، أو المؤتمرات، أو ما لا أدري أيضاً، فدعني أؤكد لكم أنها أنشطة، في غالبية الحالات، حلقية، شبه سرية، خاوية من القيمة، ولا تُشرِف كاتباً يأمل أن يكون حقيقياً. لذا فإني، وفي المناسبات المعدودة التي عنّ لبعض القائمين عليها توجيه الدعوة لأشارك فيها، اعتذرت، ولعلهم ندموا على تلك الدعوات لذلك المتكبر. وأخيراً إذا كنتم تشيرون إلى عموم القراء، فلربما كان هذا حزني الأكبر؛ فما من وجود فعلي لمجتمع القراءة المقصود ذاك في مجتمعاتنا العربية. إذاً، وبالنظر لكل ما سبق، يغدو الانخراط في مشاريع الكتابة الأدبية نشاطاً عبثياً ولا عقلانياً، لكن هناك دائماً من سيُقدِم على إتيانه، أو فلنقل، من سيجد نفسه مقهوراً، لسبب ما يظل غامضاً ومحيراً، على الوقوع في غوايته وحبائله، وربما كان ذلك من حسن حظ نوعنا العاقل، برغم كل شيء.
_وهل تؤمن بالجيتوهات الثقافية أو الشللية وخاصة وأنت الرافض لتلك الآليات المحركة للفساد الثقافي، حدثنا عن موقفك وبوضوح كما تعودنا منك؟
تؤمِن الشللية، والجيتوهات الثقافية، لأعضائها ومنتسبيها نوعاً من الحضانات، أو ربما الدروع الواقية وشبكات الأمان، التي يتعارض نسجها ونشرها، بالضرورة، مع طبيعة الإبداع وشجاعته وأصالته الذاتية. وعليه فإنني أعجب لأولئك المتحدثين عن انتمائهم لجيل ما، أو لورشة أدبية ما، كما لهؤلاء المسجلين في ورشة كتابة ما، وكذا لغيرهم من المتحلقين حول دار نشر بعينها، أو مطبوعة أدبية بذاتها...إلخ، وأعتبر هذا كله من علامات المراهقة الأدبية ودلائل الصبيانية الإبداعية، وكذلك، وهو الأخطر، من أمارات فقدان الثقة في أصالة المبدع الذاتية، ورعبه بمواجهة مصيره الفردي الضروري، والمحتم، لقدره الفني. في العقود الماضية، كانت هذه الجيتوهات، كما نعلم، واقعة جغرافية بالأساس، في مقاهٍ محددة، أو غرف تحرير صحفٍ بعينها، أو حتى منتديات أدبية حكومية وأهلية. الآن توسعت حدود تلك الجيتوهات لتصبح، في زمن الاتصال الرقمي، فضاءً لا جغرافياً، وربما ذاك ما يجعل منتسبيها يتوهمون أنهم قد كسروا العزلة وخرجوا من شرنقة الاحتباس المكاني، وهو وهم كبير، وخطِر، تبيعه لهم مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية. يقيني أن المبدع الحقيقي هو من يلوذ بصدفته الخاصة، دخولاً وخروجاً، ووفق أجندته الإبداعية الشخصية، محققاً لمجده الإبداعي الحقيقي، أقصد أصالته، فرحه وبؤسه، عقله أو جنونه، موت حياته، وحياته في الموت، عبره ومن بعده.
عن الوجود والموت والعدم، كيف تبلور رؤيتك للحظة التاريخية الفارقة فيما يخص الحروب والأوبئة وتأثيراتهما على مستقبل الفكر وجدوى الإبداع والفن؟
أظن نفسي قارئاً نهماً لكتب التاريخ وسردياته. وأجرؤ، بين الحين والآخر، على كتابة بعض المقالات التي أحاول فيها تأمل بعض أحداثه ومجرياته. وفي هذا السياق، أميز بداخلي، وبجلاء كبير، ما بين الشريان المادي، ونظيره الأنطولوجي، اللذين يتصارعان، ويتماسان، ويتواشجان، ويتماهيان، في عقلي وروحي، عند النظر في البدء، والحال، والمآل، لنوعنا العاقل، على الأقل منذ استقر أسلافنا العاقلون ضمن مجموعات بشرية، كبيرة نسبياً، مُشترعين ما أسميناه الحضارة الإنسانية، أو ربما الدراما الإنسانية، إذا شئنا التعبير عن رؤيتي الذاتية للتاريخ الموّار، كما تعبرون أنتم بدقة، بالحروب والأوبئة. وأشارككم الاعتقاد أننا نعيش أوقاتاً تاريخية فارقة، ولتسمحوا لي أن أضيف أننا كنا دوماً نعيش تلك الأوقات، أو اللحظات، التاريخية الفارقة، أو أن المركبات الجدلية الهيجيلية، عند النظر لحركة التاريخ في ضوئها، تبقى متسيدة للمشهد. وبطبيعة الحال، فإن التعبير الإنساني المتعالي عن تلك الدراما الإنسانية، فناً وأدباً وفلسفة وعلماً وديناً وقانوناً، لا يقدر، ولا يحق له أصلاً، إدارة ظهره لمآسي تلك اللحظات الفارقة، المستدامة والعصيبة. هكذا جاءت أهرامات الجيزة كأكثر من مجرد تعبير فني عن طموح هندسي، أو جمالي، لدى المصري القديم، بل كمسعى لقنص الخلود والأبدية.
_ وماذا عن تماسك الدائم وشغفك بكل من إلياذة هوميروس وسرديات الروسي تولستوي؟
ضمن إطار مفهومي عقائدي انبثق عن وعيٍ حادٍ، وأليم، باللحظة التاريخية الفارقة، أعني لحظة إدراك الإنسان لتناهيه المحتم. وهكذا أيضاً فقد جاءت "إلياذة" هوميروس، و"الحرب والسلام" لتولستوي، وغيرهما من الإبداعات الخالدة، كتعبيرات متعالية عن لوعة إدراك الإنسان لتلك اللحظات الفارقة، في صلابتها وهشاشتها وديمومتها، معاً وبنفس الوقت. وهكذا ستجئ يوماً الترجمة المتعالية عن لحظة الحرب الروسية/الأوكرانية/الأطلسية، كما ستجئ، حتماً، لحظة التعبير عن الدراما الكوفيدية. أما بالنسبة لي شخصياً، فلقد استفزتني، وبعمق، تلك اللحظة الكوفيدية، والتي بدت لعيني، ساعتها، حبلى بنذر نهاية الحضارة وشيخوخة الكوكب وتهالكه، الأمر الذي جعلني أتأمل فيه بهذا المعنى، مفكراً في المصير، متسائلاً عن الما بعد، بل وعن معنى كل جهد أقوم، أو يقوم به كل أحد، حتى ولو لمجرد نقل القدم اليسرى لتحاذي اليمنى وتقطع خطوة. الخلاصة أن تلك التأملات يمكن أن تصنع كتاباً صغيراً يُعنى، ويحاول أن يجيب، عما سألتم عنه هنا: الموت، والوجود، والكتابة. فلنرى.
_ ثلاثون عاما ويزيد وأنت المحلق في عالما يخص ذائقتك ووجودك بل وفضاءاتك الفكرية والدلالية، كيف ترى الحالة السردية والإبداعية الآنية وهذا من خلال تناول كتاباتك؟
نعم، الحقيقة إنها رحلة امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً. كنتُ قد شرعت في كتابي الأول "يقين الكتابة" وأنا في السابعة والعشرين. صحيح أني بقيت أقترف محاولة كتابة القصة القصيرة، والمقالات والعروض الروائية والسينمائية قبلها بحوالي عشر سنوات، تم نشر الكثير منها مطلع الثمانينيات بجريدة الأهالي ومجلة أدب ونقد، إلا أن توقي الدائم، والذي رحت أنكره على نفسي خشية ورعباً، كان لاجتراح مأثرة تأليف رواية. وهكذا ظللت أمعن في الهروب من ذلك الخطر العظيم حتى حانت لحظة مفصلية في حياتي أودت بي للجة المغامرة: في السابعة والعشرين من العمر، كنت قد صرت زوجاً وأباً لتوأمين، أشتغل بأعمال يدوية وحرفية صغيرة لا تكاد تؤمن للأسرة تكاليف العيش، ولاحت لزوجتي، معلمة اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية، فرصة للإعارة لأربع سنوات بدولة خليجية، ووقعنا في مأزق وجودي عويص، حيث بدت لي سخرية الأقدار تفوق الطاقة على الاحتمال نتيجة للاضطرار لتبادل الأدوار والمسؤوليات والوظائف أنا وزوجتي؛ هي ترحل منفردة للعمل، وأنا أبقى هنا لرعاية الطفلين، وما من بديل أمام أعيننا لإطعام الصغار. اقترحت علي أن أكافئها، بالمقابل، على تضحيتها الجسيمة، فقط بكتابة الكتاب الذي طالما فكرت به، وهو ما كان. أنهيت كتابي الأول ذاك عن إبداعات وحياة إدوار الخراط في يوم ذكرى ميلادي الثلاثين، وأهديته إليها بالطبع. بعد ذلك بسنوات معدودات، وتحت ضغط نفسي رهيب آخر، أنجزت كتابة روايتي الأولى "اسم آخر للظل" في ثلاثة أشهر لا غير. جاءت، وكما لاحظ النقاد والقراء وقتها، مشحونة بقوة الذكريات، والانتظارات، والأحلام المحبطة، والتواريخ، الشخصية والجمعية، المنهزمة. وبعدها بعامين، كنت قد كتبت "المسرنمون" التي، وعكس سابقتها، حُرِرت بتؤدة، أو على نار هادئة كما يُقال، والتي رحت أتأمل فيها تجربة جيلي، قاصداً استقصاء منابع الهزيمة الوجودية المريعة التي حاقت به، حياتياً وسياسياً وفكرياً وروحياً وأخلاقياً على السواء..
_ ليتك تحدثنا عن تلك المحطات الإنسانية والحياتية الفارقة التي شكلت بل وبلورت وعيك تجاه الكتابة والسرد في مشوار العمر الطويل؟
على مشارف أربعينياتي، اتخذت قراراً، غير معلن، بتوديع الكتابة مؤقتاً، والسفر للالتحاق بوظائف دبلوماسية ببعض سفاراتنا في الخارج. لم أكن قد نسيت أبداً مسؤوليتي الأولى عن تأمين العيش الكريم للأسرة، وراهنت نفسي على قدرتي في تحقيق هذا الهدف عبر العمل المتواصل الذي يستلزم تفرغاً، شبه تام له، وكذا في اتخاذ القرار الحاسم، بالوقت المناسب، بالكف والعودة للتفرغ لاستعادة حياتي الكتابية، من دون مقاساة ضغوط اجتماعية ثقيلة، وهو ما حصل بالفعل في خمسينياتي. عدتُ لأجد المشهد الإبداعي المصري قد تغير كثيراً، سواء كنتيجة لمتغيرات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العام قبل وأثناء وبعد 2011 ودخول جيل جديد، بوعي مختلف وتصورات، أعتبرها غائمة ومشوشة ومرتبكة في غالبية الحالات، وبأوهام وأحلام ومتطلبات مغايرة، لما أعرفه وأقدره، عن الأدب والكتابة والإبداع عموماً، أو كذلك بسبب التبدلات الجذرية والعنيفة على بنية الوسائط المُستخدمة من قبل أولئك المبدعين، خاصة الرقمية منها. أفهم أن هذا طبيعي، وأقبل به. لكن ما لا أفهمه، ولا أقبله، إنما هو تخلي هؤلاء عن مسؤولياتهم الفردية المستقرة، والمتعارف عليها، تجاه عملهم الكتابي، من تثقيف ذاتي وتعلم مستمر ومساءلة متواصلة للنفس والقدرات. على سبيل المثال، لن أفهم أبداً كيف يجرؤ كاتب ما، أو من يعتبر نفسه كذلك، على التكاسل في تعليم نفسه قواعد اللغة التي يكتب فيها، أسلوبياً ونحوياً وإملائياً، مردداً مقولات لا مسؤولة، بل ومُغالِطة، عن أن ذلك دور لمحرر ما ينوب عنه في النهوض بها. شخصياً، أعتبر ذلك إما جهلاً ونقص معرفة بشروط ومتطلبات الكتابة الإبداعية، وإما تنطعاً وتحدياً واعياً يستوجب مواجهته بكل وضوح وحزم، وهو ما أحاول القيام به، قدر استطاعتي، وبين الحين والآخر، كتابةً أو شفاهة.