قصص أغنيات «أسمهان» بين الشهد والدموع.. وهذه حكاياتها مع الأخطل الصغير
كانت أسمهان تغني وتزفر وتقطع أعصابها عندما تكون في حاجة إلى البكاء.. وفي أوقات سعادتها، كانت تجد في الغناء وسيلتها للتعبير عن السعادة، ولذلك كانت حياتها كلها أغاني حزينة باكية، وأغاني سعيدة بهيجة. ولكل أغنية في حياتها قصة، ولكل قصة في حياتها أغنية، وهذه ثلاث منها.
بهذه الكلمات يستهل المقال المعنون بـ “قصص في أغاني أسمهان”، والمنشور في مجلة الكواكب العدد 24 لسنة 1951 وبتوقيع مستعار “سين لام”.
ــ طفولة “أسمهان” القاسية وألم الحرمان
يوضح كاتب مقال “قصص في أغاني أسمهان” ــ سين لام ــ أن أسمهان كانت في الرابعة من عمرها.. طفلة صغيرة يتفجر إحساسها المرهف في أعصابها، وتتطلع بعينيها الحزينتين إلى من حولها، بحثا عن ابتسامة تدفئ نفسها.. ولكن أين يجد المحزون المصاب ابتسامة يشدها فوق شفتيه، ولو كانت هذه الابتسامة لطفلة صغيرة؟!
كان أهل أسمهان في ذلك الوقت يعانون ضائقة مرة قاسية، وكان أبوها في المنفي، وكانت أمها تأبي أن تمد يدها لأحد من أهل زوجها أو أهلها، تطلب المعونة لها ولأطفالها، فلا شيء في جبل الدروز أقسى على النفس من أن يمد أحد يده، ولو مات من الجوع.
ــ أريد أن أغني.. لأبكي
ويمضي “سين لام” في مقاله “قصص في أغاني أسمهان”: "وفي ليلة من تلك الليالي القاسية، حملت الطفلة "أسمهان" إلى فراشها، دون أن تتناول عشاء، لأنه لم يكن لدى الأسرة عشاء. وجلست الأم بجانب الطفلة تغني لتنام، وغنت لها موالا سوريا قديما، هادئ النغم عميق الألم، اعتاد أهل الشام أن يغنوه كلما أحسوا أنهم في حاجة للبكاء.
كانت الأم تغني لطفلتها "أسمهان": نامت عيونك وعين الله ما نامت.. ما في ولا شدة على مخلوقها داست.. وإن دامت الشدة ما يدوم صاحبها.. راحت ليالي الهنا ياريتها دامت.
كانت الأم تغني وهي تكاد تشرق بدموعها وكانت تتطلع بعينيها الباكيتين إلى السماء، تطلب الراحة لطفلتها الجائعة، ولكن أسمهان الطفلة لم تنم، بل انهمرت الدموع من عينيها بغزارة فأخذتها الأم فزعة بين يديها وسألتها عن سبب بكائها، فأجابتها الطفلة: لست أدري يا أماه.. لقد ذهب الجوع عني، ولكني أريد أن أسمع هذه الأغنية لأبكي.
وتقول والدة أسمهان، أن الزمن لم يغير ابنتها وإحساسها المرهف الباكي، فقد كبرت أسمهان، وأصبحت فنانة يردد الناس أغانيها صباح مساء، ومع ذلك، فقد كانت تغني هذا الموال السوري القديم، كلما تبرمت بآلامها وانفجرت أعصابها تطلب البكاء.
ويذكر “سين لام”: "أخبرني الأستاذ مدحت عاصم، أن أسمهان كانت تغني هذا الموال في الليلة الأخيرة قبل مصرعها، وكل من حضر هذه الليلة مع أسمهان، دهش من تعلق أسمهان بهذا الموال ودهش من دموعها التي كانت تنهمر على خديها وهي تغنيه. ويقال إن أحد أصدقاء أسمهان، يحتفظ بتسجيل خاص لهذا الموال، الذي رفضت أسمهان أن تسجله في أسطوانة تجارية.
ــ البحث عن شاعر
ويردف “سين لام”: عام 1943 كانت أسمهان تعيش في بيروت كما يعيش الملوك من أبطال الأساطير التاريخية، وكان قصرها الفخم ملتقى كبار رجال السياسة والحرب والفن والأدب. وكانت سهراتها السخية المترفة الفخمة تمتد دائما إلى ما بعد ساعات الشروق.
ــ حكاية أسمهان مع الشاعر بشارة الخوري
وفي سهرة من تلك السهرات الممتعة وفي ساعة متأخرة من الليل، جلست أسمهان في شرفة قصرها برفقة ستة من أدباء لبنان وشعرائه، وقالت لهم أسمهان إنها تحب أن تسمع شعرا. وبدأ الحاضرون يتبارون في رواية ما يحفظون من الشعر. إلى أن أخذ أحدهم يلقي قصيدة "اسقنيها يا حبيبي" من شعر بشارة الخوري، وبهتت الابتسامة فوق شفتي أسمهان وشردت وراء كلمات القصيدة الرائعة: أني تكن أنت أنا.. وجعلنا الزمن قطرة في كأسنا.
وفجأة قامت أسمهان في مكانها، وسألت أحد الحاضرين: أين تستطيع أن تجد بشارة الخوري؟ ولم يكن أحد يعرف مكان الشاعر، فاصطحبت أسمهان بعض الحاضرين، وركبت سيارتها، وراحت تبحث عن الشاعر بعد منتصف الليل.. وطافت السيارة بركابها جميع الأماكن التي اعتاد الشاعر أن يسهر فيها ببيروت، وأخيرا عرفت أسمهان من بعض أصدقائه، أنه سافر إلى مصيف بحمدون، فصممت على اللحاق به، بالرغم من أن الساعة كانت قد تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل.
ووصلت السيارة إلى مصيف بحمدون في الساعة الخامسة صباحا، واستيقظ الشاعر الكبير من نومه ليجد أمامه أسمهان تخبره بأنها جاءت من بيروت في الليل، لتستأذنه في غناء قصيدته. وضحك الأخطل الصغير وقال لها: "ألم يكن في استطاعتك أن تنتظري حتى صباح اليوم التالي؟، فقالت له: ولماذا أنتظر؟ وبعد فترة وجيزة كانت القصيدة قد لحنت وسجلت، وملأت سماء الشرق العربي.