رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العملية الاستخبارية الأهم فى الحرب الروسية الأوكرانية

«ألكسندر دوجين» الفيلسوف والمفكر الروسى الشهير، الأقرب إلى الكرملين، بل الأكثر إيمانًا بما يسمى أيديولوجية «العالم الروسى» أو «الأوراسيا»، ما جعل الكثيرين داخل روسيا وخارجها، يصفون حالة الاقتراب تلك بكناية دالة للرجل صار يُعرف بها منذ سنوات وهى «عقل بوتين». على تلك الخلفية يعد دوجين أبرز الداعمين لحرب أوكرانيا، ولديه تفسيرات وتنظيرات خاصة بتلك الحرب وافقتها مسارح عمليات الحرب الجارية الآن، واشتباكه مع الأوكرانيين سابق لاندلاعها مما جعلهم يكنون للرجل كراهية عميقة، باعتباره مروجًا شهيرًا وذا شأن لأيديولوجية الهيمنة الروسية «المستحقة تاريخيًا» من وجهة نظره عبر فضاء الاتحاد السوفيتى القديم. ابنته «داريا دوجينا» تبلغ من العمر ٢٩ عامًا، حاصلة على درجة الدكتوراه فى الفلسفة وهى ناشطة سياسية ضمن الحركة الدولية الأوراسية التى يرأسها والدها. عملت لبعض الوقت مقدمة لبرنامج سياسى على راديو «كومسومولسكايا برافدا»، وبسبب إتقانها اللغة الفرنسية شاركت فى عديد من البرامج التليفزيونية السياسية، كخبيرة فى السياسة الفرنسية.

داريا بعيدًا عن والدها اكتسبت شهرتها فى الداخل الروسى، كونها تعمل بالصحافة ذات المبادئ القومية الروسية، وترأس موقعًا إلكترونيًا يدعم بشكل علنى الحرب الروسية على أوكرانيا، وقبل ذلك النشاط العسكرى داخل إقليم «الدونباس» ولها علاقات وثيقة ونشطة مع الانفصاليين بالمدن الأوكرانية، التى شهد معظمها اشتباكات مسلحة خلال الفترة من ٢٠١٤ حتى قبيل اندلاع الحرب الراهنة. مع بداية فرض الولايات المتحدة عقوبات بحق شخصيات روسية ممن عرفوا بـ«الأوليجارشية»، أُدرجت داريا دوجينا فى شهر مارس على القائمة الأمريكية الأولى للعقوبات التى شملت النخب الروسية ووسائل الإعلام «المضللة» حسب التوصيف الأمريكى التى توجهها الاستخبارات الروسية، وصفتها واشنطن حينها بـ«رئيسة تحرير موقع إلكترونى للتضليل باللغة الإنجليزية» مملوك لـ«يفجينى بريجوزين» المعروف باسم «طاهى بوتين»، ومؤخرًا قامت الحكومة البريطانية بإدراج مماثل لداريا، باعتبارها مساهمة «عالية المستوى» فى المعلومات المضللة المتعلقة بالحرب الروسية بالعديد من المنصات عبر الإنترنت.

التحقيقات الروسية الرسمية فى الحادث الذى أودى بحياة داريا دوجينا، توصلت إلى أنه جرى مساء السبت زرع عبوة ناسفة فى سيارة تويوتا لاند كروزر كان مقررًا أن تستقلها صحبة والدها «ألكسندر دوجين»، بعد حضورهما معًا مهرجانًا محليًا للأدب والموسيقى كانت دوجينا مدعوة فيه كضيفة شرف. الحادث وقع فى قرية بولشى فيازيوما فى ضواحى العاصمة موسكو، وهناك شكوك كثيرة بالطبع أن المستهدف من عملية الاغتيال كان والدها، خاصة وقد غادرا موسكو معًا فى طريق الذهاب بذات السيارة، ثم بدل عودته فى اللحظة الأخيرة من الركوب رفقة ابنته إلى العودة صحبة أحد أصدقائه. رئيس جمهورية دونيتسك الانفصالية «دينيس بوشلين» والصديق المقرب لداريا، علق على تليجرام بعد الانفجار بدقائق أن من وصفهم بـ«إرهابيى النظام الأوكرانى» كانوا يحاولون تصفية ألكسندر دوجين لكنهم فجروا ابنته. وردد الكثيرون تلك الفرضية على نحو واسع، ويضعها رجال التحقيق الروس فى الاعتبار دون شك وإن ظلت لا تمثل الأولوية الأولى لهم فيما المطلوب كشفه.

فالأهم بالنسبة للجانب الروسى الآن هو الوقوف على حجم الاختراق الذى تمكن فيه عملاء أوكرانيون من التخطيط وتنفيذ تلك العملية بهذه الطريقة الدقيقة، ولماذا اختير لها هذا المكان على وجه التحديد، وهل هناك خلية استخباراتية أوكرانية بداخل الأراضى الروسية لديها قائمة أهداف، بدأت بـ«دوجين» الأب أو الابنة أو كلاهما معًا، ومن ثم ستشهد الساحة الروسية لاحقًا مزيدًا من الهجمات على شخصيات شهيرة، قريبة من النظام أو من الأحداث أو ربما من أركان النظام ذاته. تلك هى أهم المحاور والأسئلة التى يعمل عليها الأمن الروسى فى الوقت الراهن، حتى بعد إعلانه عن بعض من تفاصيل الأحداث، لمشتبه بها رجحت تقارير روسية أن تكون هى من قامت بالإعداد وتنفيذ العملية قبل فرارها خارج روسيا. جهاز «الأمن الفيدرالى الروسى» بث بيانًا ذكر فيه: ثبت أن الخدمات الخاصة الأوكرانية هى التى أعدت الجريمة وارتكبتها، والجانى مواطنة أوكرانية تدعى «ناتاليا بافلوفنا فوفك» ولدت عام ١٩٧٩. وأنها وصلت الأراضى الروسية فى ٢٣ يوليو الماضى مع ابنتها البالغة ١٢ عامًا للتمويه، كما استأجرت شقة فى المبنى الذى تعيش فيه داريا دوجينا من أجل جمع معلومات تفصيلية حول أسلوب حياتها، كما أنها من أجل مراقبة دوجينا استخدمت نتاليا فوفك سيارة «مينى كوبر».

تلك السيارة يبدو أنها مثلت مفتاح الوصول للمرأة المشتبه فى قيامها بدور رئيسى فى عملية التفخيخ، خاصة أن الأمن الروسى تمكن من الوصول إلى أنه عند دخول فوفك روسيا، كانت السيارة تحمل أرقامًا لجمهورية دونيتسك الشعبية، فى حين قامت باستبدالها فى موسكو بأرقام كازاخستانية. الأمن الروسى أيضًا تمكن من تحديد تاريخ وساعة فرار «ناتاليا بافلوفنا فوفك» وابنتها، كما حدد خط السير الذى كان عبر منطقة بسكوف إلى «إستونيا» المجاورة ويرجح أنها استكملت إلى الأراضى الأوكرانية. الثابت أن عملية الفرار تمت بمجرد التأكد من انفجار سيارة داريا، وقبل أن يصل الأمن الروسى إلى أى معلومة عن الفاعل، أو يبدأ فى عملية الملاحقة، هذا يفسر نجاح الهروب السلس الدقيق الذى نفذته فوفك لو صحت بيانات وتصورات الجانب الروسى. فما تحصل عليه من معلومات جاء لاحقًا لهذا الفصل من العملية، مما أفقدها كثيرًا من أهميتها وإن كان يشير إلى ترجيح استهداف الابنة «دوجينا» وليس الأب، فعملية المراقبة اللصيقة التى قامت بها فوفك بهذه الطريقة وطوال تلك المدة، لا يتصور سوى أنها كانت تدرس ثغرات فى نمط حياة وتحركات دوجينا الابنة. كما يتوقع أيضًا أنها قامت خلال الفترة، منذ وصولها إلى موسكو والإقامة فى نفس البناية التى تقطنها داريا ويوم تنفيذ العملية، أنها قدمت لآخرين تصورها وترشيحها لكيفية تنفيذ عملية الاغتيال وتلقيها تأكيدًا على الطريقة والموقع والزمان، قبل تأمين وتحديد طريق الخروج الآمن لها ولابنتها من روسيا بكاملها.

ما زالت هناك فجوات عديدة وخطيرة فى تلك العملية الاستخباراتية، التى نقلت الحرب إلى مربع أكثر خطورة، لم يتمكن الأمن الروسى من الوصول إليها بعد. ففى الوقت الذى توافرت لديه تلك المعلومات التفصيلية عن نتاليا فوفك، لكنه لم يثبت حتى الآن طبيعة دورها فى العملية، هل اقتصر على المراقبة فى حين نفذ آخرون تفخيخ السيارة، وفى حال وجودهم هل تمكنوا من الهرب أم أنهم ما زالوا داخل روسيا انتظارًا لتنفيذ عمليات أخرى. ما جرى يفتح أبوابًا ومسارات جديدة للصراع، فكما تمكنت أوكرانيا من الوصول لهدف بهذا القدر من الأهمية والتأثير، يمكن لروسيا فى المقابل من تنفيذ ما هو أكبر، لكنها معادلة تكمن خطورتها فى مساحات الاختراق اللازمة لاعتمادها، فى الوقت الذى يظل التئامها أصعب من أى نمط تصعيدى آخر.