قداس الأحد الحزين.. الصلاة أم النجاة أيهما أقرب للرب؟
كنت أحضر قداسًا فى كاتدرائية العباسية للبابا شنودة الثالث، رحمة الله عليه.. وكان قداسًا مزدحمًا جدًا لأنه كان أول قداس له بعد اعتكاف طويل عقب قضية وفاء قسطنطين، وهى قضية هزت مصر فى ذلك الحين، وكانت فى أواخر ٢٠٠٤ واستمرت إلى بدايات ٢٠٠٥.. فقد كانت زوجة كاهن وأشهرت إسلامها وقيل إنها فعلت ذلك لتحصل على الطلاق الذى طالما سعت له ولكن كل محاولاتها فشلت، وقيلت أسباب أخرى، كانت القضية شائكة، لذلك كان اعتكاف البابا شنودة فى دير الأنبا مقار طويلًا، وفى هذا القداس استهل حديثه لتهدئة شعب الكنيسة، وتحدث عن الواقعة وكان حديثه موجهًا للشباب القبطى الغاضب، وبعد انتهاء كلامه عن القضية بدأ فى تلاوة الصلاة، وأذكر أنها كانت عظة الأربعاء.
وعندما بدأ البابا فى العظة والصلاة، قررت أن أخرج حيث إننى حضرت فقط لأغطى جانب حديث قداسته عن القضية الشائكة، فقد كنت أتابعها وأكتب عنها منذ شرارتها الأولى، فتوجهت لأحد أبواب القاعة لأخرج منها ولكن الباب كان مغلقًا وفشلت فى فتحه، ثم توجهت إلى باب آخر وكان نفس الشىء، فقال لى بعض الحاضرين إنه أثناء القداس تغلق أبواب الكنائس بالمفتاح، ولا تفتح إلا بعد انتهائه، توترت بشدة وقلت لهم وأنا غاضبة «وماذا لو حدث حريق ولا فيه قنبلة، الناس دى هتخرج إزاى؟» وقد كان عدد الحضور كبيرًا بسبب عودة البابا بعد غياب وبسبب القضية.
تذكرت هذا الموقف عندما حدث حريق كنيسة «أبوسيفين» صباح يوم الأحد الماضى، وكان أول سؤال تبادر إلى ذهنى: لماذا تأخر إنقاذ الناس فى هذا الحريق؟.. فلو كانت هناك فرصة للخروج ربما كان عدد الضحايا أقل، ولم يكن العدد كبيرًا إلى هذا الحد، ٤١ وفاة و١٤ مصابًا، فعادة يكون عدد المصابين أكبر من عدد الوفيات فى غالبية الحوادث، ولكن هنا الوفيات أكثر وبفارق كبير.. كما أنه ليس هناك ما يشير إلى أن هناك حالات وفاة بسبب التدافع، فهذه فرضية ضعيفة فى هذا الحادث، وهو ما يعنى أنه لم يكن هناك سعى للخروج من الأساس.
فلو كانت هناك فرصة لخروج الناس لكانت هناك فرصة للحياة لا الموت، «أيًا كان سبب الحريق»، ثم كانت المعلومات تتدفق وتشير الى أن الكاهن الراحل «عبدالمسيح بخيت»، وهو من ضحايا الحادث وقد توفى مختنقًا، استمر فى الصلاة ولم يقطعها بالرغم من أن الحريق كان قد بدأ بالفعل، والدخان أصبح محيطًا بالقاعة التى تقام فيها الصلاة، لكنه أبدًا، وفى إصرار شديد أكمل ما يقوم به، وبالتالى الناس لم يتحركوا للهروب من الدخان والنيران، حيث كشف فيديو نشرته الصفحات القبطية، تحت عنوان «كنت أمينًا للمنتهى»، عن أن القس كان يكمل الصلاة على ضوء التليفون المحمول عندما انقطع التيار الكهربائى، وتكشف كاميرات الكنيسة عن أن الدخان كان كثيفًا ويغطى الشمامسة تمامًا وغطى القاعة بالكامل، حتى إن الرؤية انعدمت، ولأن الكاهن هو صاحب قرار انصراف الشعب أثناء إقامة القداس فلم يتحرك أحد، باقى تفاصيل الحريق الموجعة معروفة، ولكن اللافت هنا هو كيف للدين أن يتحكم فى حياة الناس ومصائرهم إلى هذا الحد، «أى دين»، وبصراحة شديدة لا أستبعد أن يحدث هذا فى المساجد وبنفس التفاصيل، فلو أن الواقعة كانت فى مسجد، فى تصورى لأكمل الشيخ الصلاة وأبى أن يقطعها وليحدث ما يحدث، وكأن بعض رجال الدين قرروا إرسال الناس إلى السماء نيابة عن الرب، رغم أنه أى من الأديان الثلاثة لا يوجد به أن الصلاة مقدمة على حياة البشر، الدين أساسًا بعث به الرسل لتنظيم حياة البشر وليس لتدميرها، ولا لتعذيب الأرواح قبل الصعود إلى خالقها.
فقد قال الشماس «جرجس إبراهيم»، أحد الحاضرين فى القداس الحزين والموجود فى المستشفى للعلاج من إصابته، لإحدى القنوات الفضائية الإخبارية الشهيرة: «إن الكاهن لم يكن يستطيع أن يوقف الصلاة لأنها مرحلة التقديس، وهى أن أبونا يبدأ يقدس القربان، وكان فى بدايتها، وموجود فى التسجيل أنه كان يفعل ذلك لآخر ثانية لحد أبونا ما وقع، وإحنا لسه بنصلى وهو ماكنش يقدر يبطل احترامًا للتقديس، وهذه من أقدس اللحظات فى القداس كله، حتى أغلب الناس لم يصرخوا، والدليل أنهم ماتوا وهم جالسون على الدكة».
وهذه ليست المرة الأولى التى يتمم فيها كاهن الصلاة رغم الخطر، ففى عام ٢٠١٧ فى حادث تفجير الكنيسة البطرسية، فقد أصر الكاهن أيضًا على إتمام التناول للشمامسة بعد حدوث التفجير، ثم انصرفوا لإسعاف المصابين والضحايا، ولكن فى حادث البطرسية كان الانفجار قد وقع قبل نهاية القداس بدقائق قليلة، لذلك أكمل الكهنة الصلاة، وأذكر أنه كان فى مكان صلاة النساء والأطفال، لذلك كان معظم الضحايا منهم، ولكن فى «أبوسيفين» حدث الحريق فى بداية القداس وقبل تقديس الذبيحة، وهو ما يجعل للكاهن حق إنهاء القداس فى أى وقت يشاء، كما يقول رجال الدين المسيحى فى تغريداتهم وتصريحاتهم لبعض الصحف، وإنما يقول بعض القساوسة دفاعًا عن الكاهن إن قس «أبوسيفين» يبدو أنه لم يكن يعلم أنه حريق، ولو كان علم بذلك لصرف الناس.
وفى باكستان كانت هناك حادثة شبيهة بما حدث فى «أبوسيفين»، وهى واقعة حدثت منذ خمس عشرة سنة تقريبًا، حيث حدث تفجير فى أحد المساجد أثناء صلاة الجمعة، وكان التفجير خارج المسجد ولكن الشيخ أكمل الصلاة، ودعا المصلين الى الاستمرار فيها واللجوء لله بالدعاء بالنجاة، وإذا حدث مكروه فسيكونون شهداء ذهبوا إلى ربهم وهم يصلون، ورغم أنه كانت الفرصة متاحة للمصلين للهروب من المسجد إلا أنهم أكملوا الصلاة بناء على كلام الإمام وشيخ المسجد، فحدث الانفجار الثانى وحاصرتهم النيران، وكان هناك عدد كبير جدًا من الوفيات، ومنهم أيضًا أطفال، كما أن الأمر تكرر فى مسجد كبير شرق أفغانستان، أيضًا، ورغم محاصرة النيران، أكمل الشيخ الصلاة وبالتالى المصلون، وكانت النتيجة مقتل أكثر من ١٠٠ شخص، وفى دولة عربية فجّر انتحارى نفسه فى صلاة العيد فى جزء خلفى يضم عددًا من المصلين، ورغم ذلك أكمل المصلون صلاة العيد لأن الشيخ لم يتوقف حتى فجّر الانتحارى الثانى نفسه فى الجزء الأمامى.. كما حدث الأمر ذاته فى صلاة العشاء فى إحدى الدول الخليجية.
فنحن هنا أمام إشكالية كبيرة، كيف يفعل رجال الدين ذلك؟!، فإن اللجوء لدور العبادة والصلاة لتهدئة النفس والتقرب إلى الله والدعاء، وفى النهاية كل هذا يحدث لاستمرار الحياة، ولا أعتقد أن الله، سبحانه وتعالى، يكون راضيًا عن إنسان لا ينجو بروحه من المخاطر، إنسان يرمى بنفسه إلى التهلكة، فهل لو كنت تصلى فى مكان وشاهدت ثعبانًا يتحرك نحوك لأذيتك، تكمل صلاتك ولا تتحرك أم تهرب أو تحاول قتله حتى لا يؤذى شخصًا آخر؟، وإذا حدث حريق وأنت تصلى، أيهما أفضل عند الله، أن تكمل صلاتك، أم تنجو بنفسك وتحاول إخماد النيران لإنقاذ حياة الآخرين؟، كيف لإنسان أن يزايد على الله، عز وجل، فهو الذى فرض الصيام فى الإسلام وفى نفس الوقت وبمرونة شديدة قال إن المريض ليس عليه حرج، وإذا كان فرض الله خطرًا على صحته فليفطر، هل هذا الرب سيغضب إذا قطعت الصلاة لتنجو بنفسك وأولادك من خطر ما يهدد حياتكم؟، وإذا كنت تصلى وكان هناك شخص يغرق وأنت تستطيع إنقاذه فأيهما أقرب إلى الله، أن تكمل صلاتك وتتركه يغرق، أم تقطع الصلاة لإنقاذه؟
أعتقد أننا بحاجة إلى علماء مستنيرين ولديهم عقول تفكر وقلوب تستفتى للتحدث إلى الناس فى مثل هذه الأمور، وللإجابة عن هذه الأسئلة التى يتداولها الناس منذ حريق قداس الأحد، إذا كنا بالفعل نريد تجديد الخطاب الدينى ونبذ التطرف والتعصب والعنف، نحتاج هذه الإجابات فى كل الأديان لربطها بالحياة، ولتوعية البشر بأن الدين أساسه الحياة، للحفاظ عليها بقصد البقاء ولتعمير الأرض، وليس لقتل النفس وأذية البشر.