صدر حديثًا.. «أخناتون واختراع التوحيد» لعالم الاجتماع الألماني «ماشيفيسكي»
صدر حديثًا عن دار الترجمان للنشر والتوزيع كتاب "أخناتون.. واختراع التوحيد" لعالم الاجتماع الألماني فرانتس ماشيفيسكي وبترجمة للكاتب الصحفي والمترجم أيمن شرف.
الكتاب يتناول "تصحيح الصورة الذهنية السائدة – في وقتنا الحاضر – عن أخناتون والتي ترقى إلى مستوى “الأسطورة” عند العامة، و”المسلمة البديهية” لدى شريحة ليست قليلة من المشتغلين بعلم المصريات والتاريخ الإنساني ليست جهدًا بسيطًا، كما قد توحي السطور السابقة، بل هي عمل شاق اقتضى من فرانتس ماشيفسكي مؤلف هذا الكتاب – أو الأطروحة البحثية – “أخناتون أو اختراع التوحيد- نحو تصحيح أسطور” (ECHNATON oder Die Erfindung des Monotheismus-Zur Korrektur eines Mythos) مراجعة واسعة للسياقات الثقافية التي ساهمت في توجيه المشتغلين بدراسات المصريات نحو تكوين الصورة الذهنية النهائية عن أخناتون، ولطريقتهم في النظر إليه وإلى زمنه وإلى محتوى الخطاب المنسوب إليه وتحديدا ما يعرف باسم “نشيد أخناتون”، بدءًا من شامبليون ومرورًا بجيمس هنري بريستد وآرثر ويجال وتوماس مان وسيجموند فرويد وحتى المعاصرين إريك هورنونج ويان أسمان.
واقتضى هذا العمل أيضا إعادة اختبار المقولات التي تربط بين “ديانة” أخناتون وأول “ديانة توحيدية” تالية – وفقا للتسلسل التاريخي – اليهودية على أرضية ما هو ثابت ومؤكد من الأدلة الأثرية والتاريخية التي تنتمي للحضارة المصرية أو لغيرها من الحضارات المتداخلة معها، وكذلك إعادة اختبار الفرضيات ومدى صدقية النتائج التي توصل إليها باحثون سابقون وفقا لأحدث النتائج العلمية ومن بينها نتائج تحليل الحامض النووي لعدد كبير من المومياوات المصرية، واقتضى هذا العمل أيضا دراسة متأنية للصلات ما بين الوقائع والأحداث من جانب والأسطورة من جانب آخر، ما بين التاريخ الحي والذاكرة التاريخية للمجموعات البشرية ذات الصلة (أتباع أخناتون وخلفائه – كهنة آمون في طيبة- الرعامسة – المصريون في العصر المتأخر – البطالمة أو اليونانيون الذين قدموا إلى مصر وحكموها بعد الإسكندر- اليهود الأوائل في مصر والعبرانيون في فلسطين وسوريا – اليونانيون الأوائل في اسبرطة وطيبة اليونانية- الحثيون في آسيا الصغرى) وبين السياقات التاريخية.
ونظرًا لأن صورة أخناتون “المصنوعة” حديثا قد تأثرت كثيرا برؤية مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد في “موسى الإنسان والديانة التوحيدية” وبصياغة عالم المصريات الألماني البارز يان أسمان لها في “التمييز الموسوي” أفرد المؤلف مساحة كبيرة للمقارنة بين سفر الخروج العبراني ومصادر أخرى معاصرة له وسابقة عليه في الثقافتين المصرية واليونانية، “سفر الهكسوس” و”أسطورة المجذومين” لمانيتون السمنودي، وقصص الخروج الهلينستية – هيكاتيوس الأبديري كنموذج، ليثبت خطأ أسطورة التخلي التي قادت فرويد لاعتبار موسى كاهنا مصريا جعلته الأسطورة “يهوديًا”، وليثبت تجاهل أسمان لمسارات أساسية كانت تستحق التعقب مما قاده في النهاية إلى “بناء نظري” يتناقض مع التاريخ وبلا أي أصل واقعي، وليثبت المؤلف فوق هذا وذاك أن أسطورة التأسيس اليهودية – بما فيها التلمود البابلي أو أسفار موسى الخمسة – قد تغذت على تاريخ وذاكرة تاريخ “وجود الهكسوس في مصر وخروجهم منها”.
لقد اقتضى هذا العمل من مؤلفه أن يقوم بجولة واسعة في شوارع التاريخ ومعارض صوره ومكونات أساطيره ومدنه القديمة، يتنقل من طيبة المصرية “ذات البوابات المئة” إلى طيبة اليونانية “ذات البوابات السبعة”، من آخت آتون إلى أون (هليوبوليس)، من أورايس عاصمة الهكسوس إلى أورشاليم مدينة اليهود العائدين من المنفى البابلي، من حاتوشا (في هضبة الأناضول) عبورًا بالإسكندرية في المياه الدافئة للبحر المتوسط وحتى اسبرطة في أحضان الجبال اليونانية، إنها بالفعل رحلة فكرية جديرة بالقراءة والتأمل لا تقتصر أهمية هذا الكتاب أو الأطروحة البحثية – على دارسي المصريات، بل تتعداهم إلى القارئ العام غير المتخصص لإذكاء روح التفكير العقلاني والاستدلال المنطقي وصولا إلى فهم أعمق للتاريخ الإنساني وتطور أو انعطاف دلالاته وليس وصولًا إلى “يقينيات” لا أقدام لها على الأرض.. وصولًا إلى معرفة أن “دين الإله الواحد” قد تشكل عبر سلسلة من التفاعلات الفكرية في تاريخ الوعي الإنساني، ولم ينزل إليهم دفعة واحدة من فضاء أعلى في غرفة مظلمة يجلس في وسطها متنبئ غامض أو كاتب وحي أسطوري.