شاهد على مصر 3.. توفيق الحكيم يكشف سر هروبه من لقاءات عبدالناصر
قالوا لعبدالناصر إننى قصدته بـ«السلطان الحائر» فلم يغضب لأنه فهم رسالتى إليه
ما كنا نسمعه عن تجاوزات ثورة يوليو كان يبدو ضئيلًا مع تجاوزات الثورة الروسية
استشارنى السنهورى فى تحديد الملكية الزراعية فأشرت عليه بمائتى فدان فقدم الفكرة لمجلس الثورة
اعتذرت عن عدم تسلم جائزة الدولة من عبدالناصر وتجاهلت دعوته لى لتناول فنجان قهوة.. فلم يغضب
كان شيخ الكتّاب توفيق الحكيم «١٨٩٨- ١٩٨٧» شاهدًا على عصرين عاش خلالهما تجربة مصر الملكية، ثم مصر الجمهورية، ولم يكن أبدًا منعزلًا فى برجه العاجى- كما صوره بعض نقاده- وهو يكتب ويخوض معاركه فكرًا وفنًا، بل كان يراقب ما يحدث حوله سياسيًا واجتماعيًا، من خلال عمله وكيل نيابة ثم موظفًا حكوميًا، كاد يتورط على حين غفلة منه فى إحدى القضايا السياسية، وهو هنا يتذكر عبر حوارات مطولة معه كثيرًا من المواقف، كان آخرها حوار جمعنى معه فى مكتبه بـ«الأهرام» فى يناير ١٩٨٧، قبل رحيله بحوالى سبعة أشهر، وكان حاضرًا محمد جلال رئيس تحرير مجلة «الإذاعة والتليفزيون»، ود. سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب، ود. نهاد جاد الكاتبة المسرحية، ثم انضمت إلينا نوال المحلاوى سكرتيرة محمد حسنين هيكل، وحضر د. لويس عوض لبعض الوقت، وكانت المناسبة تهنئة توفيق الحكيم بالسنة الجديدة، فترك مكتبه وجلس بيننا وكأنه يودعنا، بعد أن أدلى بشهادته على عصر كان أحد نجومه وفرسانه.
كان جلوس توفيق الحكيم مع الإقطاعيين بعد الثورة ملفتًا لجمال عبدالناصر، وكان موضع تساؤله، يحكى شيخ الكتاب مفسرًا ما حدث، وبماذا أجاب على تساؤل الرئيس، يروى قائلًا: «رغم احتفاظى بصداقاتى لرجال ما قبل الثورة ومنهم إقطاعيون ووزراء ومحافظون وأصحاب أطيان سحبت منهم طبقًا لقوانين الإصلاح الزراعى التى رحبت بها قبل صدورها عندما جاءنى د. عبدالرزاق السنهورى وقت أن كان رئيسًا لمجلس الدولة ولا يزال موضع ثقة الثورة، واستشارنى فيما يريده رجال الثورة من تحديد للملكية الزراعية بحد أقصى خمسمائة فدان أو مائتى فدان، فنصحته أن يجعلوها مائتى فدان، ولم أكن أنكر ذلك أمام أصدقائى ومعارفى من أصحاب الأطيان الذين كانوا كلما التقيت بهم فى فندق شبرد يلعنون الثورة واليوم الذى حدثت فيه، فأحاول إفهامهم أن الثورة تحقق أمانينا ولا تظلم أحدًا، لأنها تتصرف لمصلحة الشعب وتحقق له العدالة وتستجيب لطموحاته التى طالما قتلها تردد الساسة السابقين، وكنت أقول لهؤلاء المعارف من أصحاب الأطيان إنهم يجب أن يتقبلوا الثورة بروح رياضية، لأن ما أخذ منهم لم يذهب لأحد من رجال الثورة وإنما ذهب للشعب.
يضيف توفيق الحكيم: «كان جلوسى مع هؤلاء الناس من رجال العهد القديم مما لفت نظر عبدالناصر وجعله يسألنى عن طريق هيكل، فأبلغته أننى أفرق بين موقفى من ثورة يوليو وتأييدى لها، وعلاقاتى الشخصية الإنسانية حتى لو كانت تلك العلاقات مع من تظن الثورة أنهم أعداء لها بحكم أنهم أضيروا منها، لأن هؤلاء الناس كانوا أصدقاء لى قبل الثورة، عرفتهم من خلال عملى بالريف كوكيل للنيابة أو من خلال تعرفى عليهم فى مدارس أدبية أو علاقات شخصية، ولا يعنى تغير العهد أن أتغير معهم بتغير الظروف السياسية، فذلك ليس من شيمتى ولا من أخلاقى، قلت هذا لهيكل وأبلغه لعبدالناصر، فلم يغضب منى وأكبر هذا الموقف لى، وشعر أصدقائى الذين يجالسوننى ممن أضارتهم الثورة أن أحدًا لم يتعرض لهم فى وجودى، فقالوا لى إنهم لم يتصوروا أن عبدالناصر بالرجل الذى يفهم ويقدر العلاقات الإنسانية، ورغم أنهم كانوا (يتبحبحون) فى وجودى فى إظهار حنقهم على عبدالناصر والثورة، إلا أننى كنت أكبح جماحهم وأمنعهم فى الاسترسال، محاولًا أن أشرح لهم نبل مقاصد الثورة وصدق غاياتها فيما تتخذه من إجراءات، ولكنهم أحجموا عن مهاجمة الثورة وعبدالناصر بعد حصولى على قلادة النيل، وكانوا يكتفون فى إظهار عدائهم بالتورية لإحساسهم أننى بالقلادة قد أصبحت أكثر قربًا من الثورة ورجالها، ولا يتركوننى أغيب عنهم ولو قليلًا عندما أقوم بقضاء حاجتى بدورة المياه لإحساسهم أنهم مراقبون من عيون الثورة ومخابراتها، فهم يحتمون بوجودى معهم حتى يشعروا بالأمان من أن أحدًا لا يتنصت عليهم، ورغم أن الثورة قد أباحت لى ما لم تبحه لغيرى وكرمتنى كما لم تكرم غيرى، وبادلت عبدالناصر مودة بمودة، إلا أننى لم أستجب لمسعاه لمقابلتى بطرق غير مباشرة، رغبة منى ألا تفسدنى علاقتى بالحاكم إذا قامت بينى وبينه صلة مباشرة، ولذلك كنت أتهرب من أى لقاء مع عبدالناصر حتى لا أكون محاورًا له أو متأثرًا به، حتى لا أضطر أن أجامل أو يتأثر فكرى الحر».
«وعندما مُنحت جائزة الدولة التقديرية وقدرها ألفا جنيه، ودعيت لتسلمها من عبدالناصر، وفهمت أننى سأضطر لإلقاء كلمة مجاملة للثورة وعبدالناصر على رأس الذين مُنحوا الجائزة مثلى، فاعتذرت عن عدم حضور حفل تسلم الجائزة، فألقى الرافعى الكلمة بدلًا منى.. وتكرر هروبى من لقاء عبدالناصر حتى عندما دعاه المجلس الأعلى للثقافة للالتقاء بضيوف مصر من الأدباء العرب، خرجت للجلوس فى مكان مشمس وعندما سأل عنى عبدالناصر قال له يوسف السباعى بأننى «بتشمّس»، ومرة أخرى لا يغضب عبدالناصر بل تفهم موقفى من ابتعادى عن رجال السلطة، ولم يحاول أن يستعمل سلطته كرئيس للجمهورية فى أن يأتى بى بالأمر، ولن أستطيع أن أخالفه كمواطن، كما فعل معى أنور السادات بعد ذلك.. ولكن عبدالناصر كان يعاملنى كأديب وكاتب ومفكر لا يليق بى أن يستدعينى بالأمر، وإنما كان يترك لى حرية التصرف فى أن أقابله أو لا أقابله، حتى عندما قال لى هيكل إن عبدالناصر يرغب فى أن أتناول معه فنجان شاى، وتهربت كعادتى ولم يغضب أيضًا، وظل يكرمنى من منطلق معرفته بقيمتى ومن تأثره بكتاباتى مما كان لا يخفيه، حتى إنه فيما يبدو كان السبب فى ترغيب زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة فى القراءة لى، فقد كانت تجرى محاكمات الثورة وتذاع فى الراديو ولم آخذ بالى مما يذاع إلا عندما سمعت جمال سالم يستشهد بكتاباتى ويقول: (وعلى رأى توفيق الحكيم)، مما جعلنى أقول لنفسى: يبدو أن العسكريين فعلًا يقرأون.. ومن هنا كنت أتجاوز عن بعض تجاوزاتهم وأكتفى بتنبيههم بشكل غير مباشر فى أعمالى الفنية، فلم أحفل بضياع الحياة الدستورية، فقد كانت ضائعة قبل الثورة ولكن الفرق أن الثورة ورجالها كانوا مخلصين ويحققون لنا ما كنا نحلم به فى شجاعة وجرأة، فلا أهمية للمبادئ فى أيدى مستهترين، ولكن حينما تكون المبادئ فى أيدى شجعان ممن لديهم الجرأة لأن يفعلوا ما نادى به الشعب كثيرًا، فإنه يمكن القبول ببعض التجاوزات أمام تحقيق الأهداف الكبيرة مع التنبيه بضرورة الحذر من التمادى فى استعمال السيف وإهمال الفكر والقانون، وهذه الرسالة أبلغتها لعبدالناصر فى مسرحية (السلطان الحائر) من خلال عمل فنى عندما وجدت شعارًا تتبناه الثورة وهو أن (القانون فى إجازة) وجعلت أحداث المسرحية تدور حول أحد الملوك فى عصر المماليك، وجعلت هناك فتوى بعدم شرعية الملك، لأنه لم يعتق بعد ولا بد من بيعه فى السوق ليصبح حرًا وحاكمًا شرعيًا، وإما أن يبقى ويفرض نفسه بالسيف، وجعلته مخيرًا بين (السيف الذى يفرضك ولكنه يعرضك، وبين القانون الذى يتحداك ولكنه يحميك)، وأظهرته ملكًا طيبًا متنورًا فقال: اخترت، (وهو اسم المسرحية فى ترجمتها الفرنسية)، لأنه اقتنع أن القانون سيخلصه من مأزقه بعكس السيف الذى لن يضمن له الحماية، لأن أى واحد غيره يستطيع أن ينازعه.
وعندما كتب أحمد بهاءالدين عن مسز سمبسون ودوق وندسور الذى تنازل عن العرش من أجلها، بعثت لبهاءالدين كتابى «من البرج العاجى»، وبه مقال كنت قد كتبته فى مجلة «الرسالة» سنة ١٩٣٦ علقت فيه على تضحية دوق وندسور من أجل حبه، وكنت موافقًا على حقه فى الحب، ولكننى قلت: الحب ليس كل شىء عندما يكون المحب ملكًا وسلطة الأمة فى يده، فبجانب الحب هناك الواجب، وبعد ذلك عندما رأيت فيلمًا يصور هذه القصة وجدت أن مسز سمبسون كان المفروض أن تفعل مثل الغانية فى السلطان الحائر وتقول لدوق وندسور: أمتك أحق بك، وفى نفس الوقت لا نفترق عن بعض. ولكن مسز سمبسون طمعت أن تتزوجه وهو حاكم. وقد حاولت أن أبعد بالمسرحية عن جو الإثارة لأننى لا أريد أن أستفز أحدًا أو أثير أحدًا ضد الثورة، فكتبت أن مسرحية «السلطان الحائر» تتناول ما يحدث فى مجلس الأمن، وهو الصراع بين السيف والقانون فى الالتجاء إلى القوة. المبدأ «القنبلة فى يد وغصن السلام فى اليد الأخرى». ولكن أحمد بهاءالدين وكان فى «أخبار اليوم» قال لى: مجلس أمن إيه وأمم متحدة إيه، إنت كتبت المسرحية عن مصر، فكان أول من فهم المقصود منها، وقد طلب هيكل من يوسف السباعى شراء المسرحية ما دامت خاصة بمصر ليفتتح بها المسرح القومى، وقلت لهيكل مؤكدًا عليه أننى لم أقصد بالسلطان الحائر الاستفزاز أو تحدى الحكم، حرصًا منى على عدم إزعاج الثورة وهى تحقق إنجازاتها، فقال لى هيكل: إنه لم يفكر فى هذا وإن مسألة السيف والقانون مسألة قديمة تاريخية.. وقلت لمدير المسرح القومى أن يعطيها لوزير الثقافة ثروت عكاشة ليقرأها ويقول رأيه فيها، إن رأى أن تكون مسرحية الافتتاح.. خلاص حتى لا أكون قد أخذت الحكومة على غفلة منها، وأكون قد أفهمتها ماذا أفعل.. فلما قرأها ثروت عكاشة قال لى: كافتتاح لا، إنما بعد روايتين ثلاث ووسط الموسم يدخل «السلطان الحائر» حتى لا يبدو وكأن المسألة مقصودة ومتبروزة. وعرضت بعد عدة شهور وقد قال البعض لعبدالناصر إنه هو المقصود بالسلطان الحائر فلم يغضب، ولكنه فهم رسالتى غير المباشرة إليه، وأجابنى هو للأسف أيضًا إجابة غير مباشرة فى إحدى خطبه عندما قال «اخترت السيف».. فلم تمارس الثورة الديمقراطية ولم أهتم أنا بذلك، ربما لأن طبيعة الظروف والتحديات الداخلية والخارجية التى أحاطت بالثورة لم تدع الفرصة لها كى تلتقط أنفاسها، أو للديمقراطية أن تنمو.. ولكننى مع ذلك لاحظت حالة من الحيرة والقلق فى البلاد، حيث استغلت الاشتراكية والتعاونية ونشأ عنهما ما يسمى بـ«الاشترأسمالية»، لأنه دخل ناس من الذين ينتفعون بكل عصر، فقلبوه إلى نظام لا هو اشتراكى ولا هو رأسمالى، وعبرت عن ذلك فى «بنك القلق» التى أعطيتها لهيكل وطلبت منه أن يقرأها، وإذا وجد فيها شيئًا يضر بعبدالناصر فلا ينشرها، لأننى حريص على مودتى بعبدالناصر.. إنما ما أريده هو أنى ككاتب أردت أن أكتب صورة للمجتمع، فأخذها هيكل لعبدالناصر الذى قال له: عندما يكتب توفيق الحكيم لازم ينشر ولا يمكن لأحد أن يمنعه من النشر.
ورغم أن عبدالناصر لم يقرأ «بنك القلق» عندما ذهب له بها هيكل، فإنه ثقة فيما أكتبه أمر فورًا بنشرها رغم أنها تنتقد النظام، الذى لا هو اشتراكى ولا رأسمالى، وتتعرض للجيش مما أغضب عبدالحكيم عامر، ولكن كانت وجهة نظر عبدالناصر أن توفيق الحكيم مسموح له بما لا يسمح لغيره، وسيكون عيبًا فى حق الثورة أن ينشر الحكيم «يوميات نائب فى الأرياف»، التى يتعرض فيها لفساد الريف المصرى قبل الثورة ثم تمنع الثورة توفيق الحكيم من أن ينتقدها، بل إننى فى انتقادى لاشتراكية عبدالناصر أبلغته عن طريق هيكل: كيف لزعيم الثورة الذى ينادى بالاشتراكية أن يرتدى كرافتات «سولكا» الأجنبية غالية الثمن، فطمأننى عبدالناصر على لسان هيكل أن هذه الكرافتات هدية من الرئيس اليوغوسلافى تيتو.
فالحقيقة كان هناك حوار غير مباشر بينى وبين عبدالناصر عن طريق هيكل الذى كان يطمئننى أن لا شىء يدعو للقلق أو سوء الظن بالثورة وإجراءاتها وخطواتها، ولكننى انزعجت عندما جاءنى الصديق عبدالرحمن الشرقاوى وأخبرنى أن شقيقه عبدالمنعم الشرقاوى المحامى والأستاذ السابق بالجامعة قد عذب فى السجن، وأن شكله قد تغير من شدة التعذيب حتى إن أهله كادوا ينكرونه ولا يعرفونه، وقال لى د. مصطفى القللى المحامى إنه ترافع عن عبدالمنعم الشرقاوى أمام المحكمة التى حكمت ببراءته وانتظرته سيارة أحد الأجهزة بعد إطلاق سراحه وأخذته إلى مكان مجهول.. كل هذا جعلنى لا أستعمل التورية أو الرسائل غير المباشرة، وكتبت خطابًا إلى عبدالناصر أحتج فيه على هذه الأساليب وأقول له إن التعذيب كوسيلة لتخويف المسجونين السياسيين وتخويف المختلفين مع الثورة هو لطخة فى جبين العهد ووصمة لا يمكن الدفاع عنها وكارثة على الحرية. وجاءنى رد عبدالناصر عن طريق هيكل أيضًا يكذب وقائع التعذيب، ويشككنى فى حدوثها على الأقل، أو يبررها لى بصورة أقل مما يحدث، وكنت أصدقه.. ولكن شكوكًا كانت تساورنى فيما يحدث فى البلد، خاصة أن كل صاحب رأى أو موقف كان يعاقب، حتى إن د. القللى الذى ترافع عن عبدالمنعم الشرقاوى أخرجوه من عضوية مجلس إدارة البنك الأهلى ومن عضوية مجلس إدارة الجامعة، ولكن رغم كل شىء كنت لا أزال أحب عبدالناصر وأؤيد الثورة، ولست أدرى ماذا كان يمكن أن يكون موقفى فيما لو كنت قريبًا من عبدالناصر أو محاورًا له بشكل مباشر؟ الخوف من أننى لن أكون ناصحًا له بل سأكون موافقًا له حينما يقنعنى بأنه لم يكن أمامه سوى أن يفعل ما فعل، سيقول لى مثلًا فيما لو كنت صديقًا له: إن الإخوان ما صدقوا إن الملك طلع ويريدون أن يركبوا الثورة بشروطهم ليحكموا البلد بمبادئهم.. فماذا أفعل؟. كان عبدالناصر سيحدثنى بهذا المنطق ويقول لى: تعال قل لى هل نضيع الثورة من أجل حريتك التى تطالبنى بها، أو ماذا كنت ستفعل لو أنك فى نفس موقعى كقائد للثورة. وفى الحقيقة أنا كقاضٍ كنت سأستمع إلى مبررات عبدالناصر ومرافعته كمحامٍ عن الثورة، والخشية أنه بأسانيده كان سيغير أفكارى مثل ذلك المحامى البارع مرقص فهمى، الذى كان عندما يترافع يحضر لسماعه كل من فى النيابة ليتفرجوا عليه وهو يبرئ القاتل. فالواقع أنا خايف أكون لو قربت من عبدالناصر إنه يكون مثل مرقص فهمى يقنعنى بأنه لا توجد هناك جريمة وأن المسألة كلها دفاع عن الثورة وإنجازاتها، بل خشيت أنه كان يمكننى أن أسنده بوقائع من التاريخ بصفتى أكثر اطلاعًا منه فى الثورات، وأقول له: افعل ما تفعله لأن الثورة الفرنسية أعدمت الأرستقراطية ورجال الكنيسة، وكانت الثورة وراءها دعاة الحرية روسو وفولتير، ومع ذلك ارتكبت الثورة الكثير من الفظائع حتى قيل «كم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها الحرية»، وكذلك الثورة الروسية الشيوعية ذبحت من يقفون فى طريقها لكى تعيش. لذلك كان اقترابى من عبدالناصر ومصادقته سيجعلنى أستمع إليه، مما كان سيضعنى فى مركز حرج، إما أن أكرهه ولا أوافقه، وإما أن أحبه وأوافقه، بل حتى الذين أيدوه ووافقوه وكانوا قريبين منه أُحرقوا بنار الثورة مثل مصطفى أمين، الذى كان قريبًا من عبدالناصر وخدم الثورة، وهو الذى عمل فى «الوفد» مقلبًا باعد بينه وبين التفاهم مع الثورة التى كانت قد حددت موعدًا لفؤاد سراج الدين لمقابلة أعضاء مجلس قيادة الثورة من أجل هذا التفاهم والتقارب ويحدد كل طرف ماذا يريد من الآخر.. وإذا فؤاد سراج الدين وهو عائد بالقطار من الإسكندرية يقرأ خبرًا فى «أخبار اليوم» مفاده أن سراج الدين يقول إن الثورة فى جيبى.. وربما يكون سراج الدين قد قال هذا أو لم يقله، ولكن الخبر أفسد ما كان يمكن أن يحدث بين الوفد والثورة من اتفاق، وجعل سراج الدين يقول ساعتها «هذه المقابلة لا يمكن أن تتم»، فهل كنت لو اقتربت من عبدالناصر سأكون أكثر فائدة وأستطيع أن أقنعه بالعودة عن بعض إجراءات الثورة وتصرفاتها، أم كان هو الذى سيقنعنى، أم كان مصيرى سيكون مثل مصير الأديب الروسى مكسيم جوركى والذى كان موقفه من الثورة الشيوعية يشبه موقفى من الثورة المصرية، فقد بشر جوركى بالثورة ويبدو أنه قال لقادة الثورة شيئًا من النقد على إجراءاتهم، فقالوا له أنت عندنا محل تقدير، لأنك بشرت بالثورة ولكنك لا تصلح معنا بنصائحك السياسية وسنكرمك ولكن لن تبقى معنا.. وعملوا له بلدة باسمه كنوع من التكريم، ولكنه فى الحقيقة كان نفيًا له. فالحقيقة أن الثورات لها أحكامها وربما أكون قد قدرت هذا فى ثورة يوليو ولم يزعجنى كثيرًا ما كان يصل إلى مسامعى عن تجاوزاتها، فذلك شىء كان يبدو لى طبيعيًا أمام ثورة لها أعداؤها، بل إن ما كنا نسمعه عن تجاوزاتها كان يبدو ضئيلًا أمام فظائع الثورة الروسية أو الفرنسية، فلم تكن هناك لدينا أو لدىّ على الأقل معلومات كافية مما تكشف فيما بعد، فقد كنت غائبًا عن الوعى بالحقيقة الكاملة ولكن كل مساوئ الثورة كانت تهون ما دامت تواصل تحقيق أمانينا وأحلامنا.