رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«وثائق أوبر».. العواصف التى تدق أبواب النخب الحاكمة (2)

بعد قيام صحيفة "الجارديان" البريطانية؛ بنشر العديد من المواد التي جاءت بالملف الاستقصائي "وثائق أوبر"، تبعتها مجموعة من الكيانات الصحفية ذات الثقل على مستوى التأثير والانتشار الدولي، ربما منطقيًا بعد التأكد من جدية المواد التي يحويها الملف الضخم الذي وصل إلى 140 ألف وثيقة، في فترة زمنية محدودة نسبيًا بالنظر إلى هذا الحجم الكبير (2013 ـ 2017). من هذه الكيانات صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، وهيئة الإذاعة البريطانية والصحيفة الفرنسية "لوموند"، حيث سلطت هذه الوسائل الإعلامية الضوء على بعض ممارسات شركة "أوبر" خلال سنوات توسعها السريع، تمثل أغلبها في نشر مواد من رسائل البريد الإكتروني الخاصة بصناديق البريد الرسمية للشركة وأفرعها، ورسائل بينية داخلية تعود إلى مديرين في "أوبر" في ذلك الوقت، بالإضافة إلى مذكرات وفواتير تتعلق بالكثير من تعاملات الشركة المالية والتعاقدية في بلدان العالم المختلفة.
كما أشير في أكثر أجزاء الملف الصحفي الاستقصائي إثارة؛ إلى أن التحركات وخطوات شركة "أوبر" الرئيسية تتمحور في أغلبها حول النخب الحاكمة، وبالأدق في الدوائر المحيطة وذات التأثير على صناع القرار في البلدان، التي توسع عمل الشركة فيها أو قامت في أسواقها بصفقات استحواذ واحتكار مما يتلامس مع شبهات الفساد والنشاطات غير القانونية، أو في أقل صورها اختراق دوائر أعمال ما كانت الشركة لتحظى بها من دون مساعدة شخصيات نافذة في تلك البلدان. كما يجب الإشارة هنا إلى أن نشاط شركة "أوبر" باعتباره كان يمثل نشاطًا مستحدثًا حين بدء عملها، لذلك فوقائع وتفاصيل اختراقها للبلدان وأسواق النقل باستخدام تطبيقاتها التكنولوجية الذكية، لم يكن له من التشريعات القانونية أو اللوائح المنظمة ما يمكن أن يضبط مسار الشركة، ولهذا بدأت الفجوات البيروقراطية التي احتاجت إلى مرونة في بعض الأوقات، وإلى القفز على القوانين والتدخل من قبل شخصيات نافذة في أحداث أخرى.
من أشهر الشخصيات التي جاء ذكرها بتلك الوثائق؛ المستشار الألماني "أولاف شولتز" لكن وقت كان يشغل منصب عمدة مدينة "هامبورج"، في الفترة بين عامي 2011 و2018. وقد كشفت المراسلات التي جرت بين قيادات شركة "أوبر" عن أن شولتز حينها تصدى بشكل صارم، لمجموعات الضغط التي كانت الشركة قد شكلتها في محيط الدول الرئيسية بالاتحاد الأوروبي، وبدا العمدة شولتز حينئذ رافضًا بشكل مطلق لاستخدام شركة "أوبر" أساليب عنيفة لفرض نفسها، في وقت كانت تواجه الشركة تحفظات السياسات وشركات سيارات الأجرة، وانحاز شولتز إلى تطبيق القوانين واللوائح لحين استصدار ما يلزم من القرارات المستحدثة، ما يسمح بدخول "أوبر" إلى سوق النقل في مدينة هامبورج الشهيرة. الوثائق تكشف عن أن هذا الموقف من العمدة الألماني أثار حنق قيادات الشركة، وجاء ذكره في أكثر من مراسلة تحمل الإشارة إلى إخفاق جماعات الضغط التي تشكلت بغرض تجاوز تلك العقبة، من أجل بدء نشاط الشركة لحين استيفاء الإجراءات القانونية، بل واتسعت دائرة الشك في إمكانية تجاوز هذا الموقف الصلب الذي كان مثار انتقاد داخل وثائق الشركة، للحد الذي وصف أحد مسئوليها التنفيذيين أولاف شولتز بأنه "مهرج حقيقي"، وهو تعبير يعبر عن الغضب البالغ والإحباط من قبل قيادات شركة "أوبر"، أكثر من كونه وصفًا حقيقيًا بالطبع لرجل احترم مقتضيات وظيفته، ولم يستجب للتنامي الكاسح الذي كانت الشركة تتمتع به في أماكن أخرى البعض منها ذات ظروف مشابهة.
هناك أيضًا بـ"وثائق أوبر" حديث مطول عن قيادة أوروبية شهيرة، هو "إيمانويل ماكرون" الرئيس الفرنسي وأيضًا قبيل توليه منصب الرئاسة، فحين كان وزيرًا للاقتصاد نسجت علاقات بين ماكرون والشركة، إلى الحد الذي ثبت عليه أنه قام بالضغط شخصيًا لوضع تعديلات قانونية، لمساعدة "أوبر" وحل مشكلاتها مع القوانين ولوائح العمل الفرنسية حينذاك. فما جاء بالوثائق التي كشف عنها مؤخرًا؛ أن شركة "أوبر" توصلت إلى صفقة سرية مع ماكرون بين عامي 2014 و2016، فوفقًا لمخاطبات الشركة الداخلية اعتبرت الوزير ماكرون في وقتها حليفًا أساسيًا تذهب إليه لمساعدتها خلف الكواليس. على ما يبدو الساحة الفرنسية لم تكن ممهدة لدخول شركة "أوبر" إليها، ففي الوقت الذي نظم فيه أصحاب سيارات الأجرة في باريس، احتجاجات كبيرة بسبب عمل الشركة الجديدة التي نافستهم في باريس، كان الوزير ماكرون على علاقة مع رئيس أوبر المثير للجدل "ترافيس كالانيك"، وقد أفادت الوثائق المسربة أنه تعهد له حينها بالعمل على إصلاح القوانين لصالح الشركة. المفارقة التي استثارت المعارضة الفرنسية بشكل كبير، أن الوزير ماكرون الذي يتولى حقيبة الاقتصاد في حكومة "فرانسوا أولاند" الاشتراكية، هو الذي ساعد وسمح لـ"الشركة الأمريكية" باختراق السوق الفرنسية رغم الاعتراض والاحتجاج الواسع من أصحاب المصلحة الفرنسيين.
الوثائق تكشف بالأسماء والتواريخ؛ عن الاجتماعات التي عقدت في مكتب وزير الاقتصاد، وعن تبادلات كثيرة لمواعيد ومكالمات هاتفية، فضلًا عن آلاف من الرسائل القصيرة بين فريق عمل "أوبر فرنسا" من جهة، وماكرون ومستشاريه من جهة ثانية. مما جعل الانتقادات الداخلية الحادة التي توجه للرئيس الفرنسي الآن، أن هناك أدلة مادية تعد مساعدة جوهرية قدمتها الوزارة التي كان يرأسها ماكرون، لشركة أوبر بهدف تعزيز موقع هذه الشركة في فرنسا. هذا التعاون الوثيق من وجهة نظر أقطاب المعارضة الفرنسية جرى في فترة حاسمة، كانت شركة "أوبر" تحاول الالتفاف على التنظيم الحكومي الصارم لقطاع النقل. لكن الرئيس ماكرون بعد الكشف عن الوثائق وتلقيه لهذه العاصفة من التنديد الداخلي، اضطر الإليزيه إلى تقديم رد لوسائل الإعلام الفرنسية يوضح وجهة النظر المقابلة، تتمثل في أن ماكرون بصفته وزيرًا للاقتصاد في حينه، كان بطبيعة الحال على اتصال مع كثير من الشركات المشاركة في التحول العميق الذي جرى على مدى تلك السنوات المذكورة، خاصة ما يتعلق بقطاع الخدمات وهو تحول كان "لا بد من تسهيله"، عبر فتح قنوات تتجاوز العوائق الإدارية والتنظيمية.
هذا عن الرد الفرنسي الرسمي، لوقائع ملتبسة يبدو أنها على الأقل تأكدت بحق الرئيس الفرنسي، وهي نموذج لكثير من الحالات المشابهة في بلدان عديدة، لكن العاصفة لم تهدأ، ففي طيات تلك الوثائق هناك الكثير من المشاهد التي ما زالت قد تستدعي الوقوف أمامها بالتدقيق والفحص واستخلاص العبر.