"نزيف" قصة قصيرة ليوسف الشريف
1
القاهرة. الدرب الأحمر. الساعة 1:24 ص.
فاحت الرائحة فاتصلوا بالشرطة، أسفل العمارة وقفت عربات الشرطة، ووقف بعض المستطلعين المتسائلين، بعض أقاربه جاءوا ولكنهم لم يستطيعوا الدخول من باب العمارة المحاصرة بعساكر تتدلى بنادقهم من على أكتافهم، في الدور الثالث وقف أثنين من أمناء الشرطة على مدخل الشقة، وفي الداخل كان هناك لواء ورجال المباحث، وأطباء الطب الشرعي الذين أخذوا يتحدثون هامسين.
وضابط يقف في شرفة مطلة على أحد المساجد العتيقة يشعل سيجارة ويدخن بهدوء شديد.
جريمة تقليدية.. معتادة، القاتل دائمًا مجهول، لا وجود لسلاح الجريمة، أو حتى أسبابها، عمليات البحث والتفتيش مستمرة في الشقة، تم أخذ أقوال البواب وجيران المجني عليه، منهم أم عبده من أشتمت رائحة التحلل ونادت الجيران ليكسروا باب الشقة ويبلغوا الشرطة.
في أحد الغرف وقف أمين شرطة يتطلع إلى المكتبة الكبيرة التي كان يجاهد لكي بجعلها منظمة باستمرار، كان يرص الكتب بترتيب معين على حسب اسم الكاتب، وقف الأمين يحاول قراءة بعض العناوين ولكن أول عنوان وقعت عينه عليه كان عنوان كتاب "شخصية مصر".
في الصالة كانت الجثة ممددة على الأرض مغطاة بملاءة بيضاء، جثة إبراهيم الياسرجي.
2
في البداية أحب أن أقول شيء أرجو أن تنتبهوا إليه، اثنان لا مكان لهما داخل هذا العالم.. الطيبون والفقراء.
أنا الأسطى توفيق، ترزي بلدي. جعلتني الظروف المهببة، أن أكون شاهد على الذي حدث، اللي جرى في بلدنا الفقر دي شيء غريب، سأتحدث عما أعرفه وما رأيته، مع إنني مثل كثيرون لا يعرفون الصدق والأمانة، أو بمعنى أصح أحاول السير بجوار الحائط بل بداخله، تجنبًا للمشاكل، ولكنني سأحاول السير في طريق الصدق.. سأحاول.
كنت أجلس على باب الدكان عندما رأيت الحاج محمود الترزاكي قادمًا ومعه حاشيته، هؤلاء الذين لا ينطقون اسمه إلا ويسبقه لقب الحاج أو الباشا أو البيه، كان وجود هذا الشيخ بينهم يبدو شاذ للغاية، فكل من يسير بجوار الحاج محمود يجب أن يكون ظاهر عليه نعمة الله، والعز والثراء، ولو حتى عامل عنده، ولكن هذا الشيخ الذي كان يسير في صحبة الحاج، كان يرتدي جلباب رث، يعلق في رقبته سبح، يبدو أنه من المتصوفة الذين يجلسون تحت قبة سيدنا الحسين في مصر أو القاهرة وتحديدًا أمام الباب الأخضر.
كان الحاج محمود قد أشترى هذه الأرض التي يقع دكاني أمامها، والتي تقع بين المسجد والكنيسة، بثمن لا يملكه كل أهل قريتنا، أو ربما يملكونه ويخفونه تحت البلاط، مع إنني أكبر من الحاج محمود الترزاكي بحوالي عشرين سنة، إلا إنني لا أستطيع أن أنطق اسمه إلا بلقب الحاج. كل اهل قريتنا وبلدنا يحبونه ويقدرونه، فهو ممثل قريتنا في مجلس الشعب، صحيح إنه ولد وعاش في مصر، ولا يأكل من أكلنا ولا يتحدث بطريقتنا، وأننا لا نراه إلا في فترة الانتخابات، ولكن مقره الذي كان بيت لجده يظل مفتوح طوال أيام السنة زي قسم الشرطة، لا يغلق بابه في وجه أحد، ووظف عدد كبير من أولاد الناس في مصنع الخيوط اللي يملكه، وبنى مسجد باسم الترزاكي في مدخل القرية ليكون عدد المساجد في قريتنا ثلاثمئة أضعاف الكنائس، ولهذه حكاية.
هم يقولون إن الحاج محمود بخيل، حتى لو بخيل فهو أنقذ بلدنا من فتنة، فثمن الأرض التي أشتراها الحاج لا تساوي ربع هذا المبلغ الذي دفعه، فالكنيسة كانت تريد شراء الأرض بأي ثمن كما تشتري باقي الأراضي المجاورة بأسعار مضاعفة، ولكن المسلمين قالوا لا بد من توسيع مساحة المسجد الذي لا يكفي لاستقبال المصلين في يوم الجمعة، بالرغم أن هذا الشارع وحده الذي يقع فيه دكاني والجامع والأرض والكنيسة به ثلاثة جوامع أخرى، ولكن الكحكة في يد النصارى عجبه.
وكادت أن تقع الفتنة بسبب هذه الأرض حتى تدخل الحاج محمود بارك الله له وأطال عمره.. لا مؤاخذة نسيت إنه مات.. فليرحمه الله رحمة واسعة.
بعد شراء الحاج محمود للأرض قام بذبح أكثر من سبع عجول، وزع اللحم على الكل، النصارى قبل المسلمين، وجاء بالطباخين، ووضع سفرة كبيرة أوي وكراسي في الأرض، وأكل المسلم والنصراني من طبق واحد بفضل الحاج محمود.
أنا بنفسي تركت الدكان ودخلت الأرض، كان الحاج محمود يقف بجوار الطباخين، يشرف عليهم وعلى توزيع الطعام بنفسه، عندما رأى الطباخ وهو يعطيني طبق الأرز وعليه قطعة واحدة من اللحم أمره بوضع قطعة أخرى.
كانت المرة الأولى التي أرى فيها الحاج محمود عن قرب، كان يظهر عليه نعمة ربنا بحق وحقيقي، كان الله يرحمه طويل القامة وضخم طول بعرض، أصلع وله شارب يقف عليه الصقر، وكرش عظيم، كان يرتدي بدلة أنيقة، وفي يده ساعة تبدو إنها من الذهب، وثلاثة خواتم فضة تزين أصابعه، كل هذا شيء والعباءة التي كان يلفها الحاج محمود على بدنه والموضوعة على كتفه شيء آخر.
لا تنسوا إنني ترزي بلدي، أي أعرف جيدًا قيمة هذه العباءة، التي لا يملك أحد مثلها في بلدنا، قماش هذه العباءة المشمشي لا يأتي سوى من الخارج، ولا يبيعه إلا عدد قليل جدًا من تجار الأقمشة في مصر تاجر في شارع الحمزاوي بالأزهر، والثاني في ميدان الأوبرا. أما الخيط والقيطان الموضوع على العباءة فهو من الحرير الطبيعي الذي اختفت صناعته من بر مصر، وأصبح من النادر وجوده في هذه الأيام الفقر.
حتى وأنا أصافحه شعرت بدفيء وطراوة يده البضة الناعمة، وهي تصطدم بيدي المشققة الناشفة التي أرهقتها الإبرة والخيط، وخيل لي أن الحاج محمود حين يتحدث يخرج من فمه رائحة أشبه برائحة السمن البلدي واللحم الضانئ.. أي والله.
***
سأعود إلى اليوم الذي رأيت فيه الحاج محمود مع الشيخ، حينها لا أدري ما الذي دفعني للصعود على سطح الدكان؟
من سطح الدكان أستطيع رؤية جزء كبير من الأرض عن طريق فجوة بين سور الأرض، وحائط الكنيسة، ساعتها رأيت هذا الشيخ الغريب يقوم برش أشياء غريبة على الأرض، ويقوم بضرب الأرض بقدمه، ويدور حول نفسه، ثم أخرج قطعة من الحديد الصغيرة من جيبه يتدلى من طرفيها خيوط تشبه الميزان الصغير الذين كانوا يزنون به الحشيش في زمن سابق، ويتمتم بكلمات لا يسمعها من حوله، عرفت ذلك لأنني لم أرى من ينظر إليه أو يتحدث معه فقط كان الشيخ يحدث نفسه ويقوم بإشعال البخور في الأرض وأشياء لا أراها يغرسها، والحاج محمود يقف في صمت يرعى كل ذلك.
3
"نص رسالة من ضمن الرسائل التي وجدتها الشرطة أثناء البحث في درج مكتب المجني عليه إبراهيم الياسرجي، وقد كان المجني عليه يكتب بعض الخطابات لنفسه أو لخطيبته المدعوة جهاد عبد الناصر، وقد أكدت الأخيرة أن المجني عليه وبالرغم من تقدم الوسائل التكنولوجية كان يحب أن يتواصل معها عن طريق كتابة الرسائل التي يسلمها لها كلما التقوا، لأنه كان يرى أنه يستطيع التعبير عن مشاعره عن طريق الكتابة الورقية، كما وجدت الشرطة بعض الرسائل المكتوبة إلى مجهولين"
نص الرسالة
مصر العزيزة.. أو عزيزتي جهاد.
أعلم أن هذه الرسالة التي أكتبها اليك الآن، لن تصل اليك، ستتلاشى وستختفي، كما اختفت كل الحقائق، أو ربما تضيع مثلي في الطريق، أو مثل مئات الرسائل التي ذهبت وضاع معها صوت أصحابها، تلك التي ضاعت بين الجهات الأصلية، أو أبتلعها البحر أو كتمت في الصدور، أو محى المطر معانيها، أنا اكتب هذه الرسالة لنفسي قبل أن أكتبها لك.
اسميتك مصر، بدلت اسمك الحقيقي، قلت لك هذا من قبل، نعم قلت لكِ إنكِ وطني، وطني الذي أشعر الآن بأنني في غربة مع أنني بداخله، إنني غريب فيه والكلمات، لا تخرج وإذا خرجت لا يتحرك جمود الصمت.
كان النهر الخالد شاهد عندما اسميتك مصر، حينها قلتِ لي لماذا؟ حكيت لك حكايات كنت اعلم إنكِ لا تعرفيها، وربما حكايات غابت في بحر أيامك، وقلت لك أن كل شيء في مصر في حالة جهاد دائم.
لا أكذب، هذا ما أشعر به، عندما أتطلع إلى عينك أتذكر صورة الفلاحة المصرية في الرسومات، صورة المعابد القديمة، الكحل المؤطر للرموش كفيل بأن يجعلني أذوب في تذكر كل جميل على هذه الأرض، النيل الأهرامات، مآذن القاهرة وشواطئ الأسكندرية، رائحة الحواري وطعم الدروب، رائحة الكتب القديمة، شوارع وسط البلد، وصلني هذا السحر بعدما تضاجعت النظرات من المرة الأولى.
لو أن شيء يدوم على حال، يا مصر أو يا جهاد لصرختي معي لتقطعي السكون والصمت والجمود، لتحاربي الخفافيش، لا أعرف درجة أسمى من العشق، ولكن متى ستكتفي الأرض من ابتلاع الدماء، متى ستتخلصين من تبدل المعاني ومن الظلم والفساد والكذب الذي أصبح قاعدة، الآية انعكست وتبدلت معانيها بل ضاعت، لماذا لا تتحدثي، لماذا ترضين بالعذاب؟ أم أنا مثلك أصبحت جاف ولا أستطيع الحديث، أو حتى النطق، بل لا أملك حتى سوى الخيبة وشعور الخوف المحاصر فوق الجميع.
هذه مجرد رسالة من غريب، جاء غريب وسيموت غريب وحيد، ولكن رسالتي لك، لا تنسي نبرة الصدق وعيون الصادقين أبدًا.
4
الحقيقة إن الحاج محمود عنده فلوس لو وضعت في الميزان، لكانت أثقل من أجساد أهل بلدنا، أنا زي أي إنسان، ولكن في فرق بين الإنسان الغبي والإنسان الذكي، والغبي هو اللي فرصة عمره تجيله لحد عنده ولا يستغلها، كل ما جرى أن فرصتي جاءت لي بل وقعت أمامي من حيث لا أدري، هل في هذا خطأ؟
أنا لن أتظاهر بالإيمان أو التقوى وأعترف إنني كلب من سلالة كلاب مهانين، ولكن كلنا ولاد كلب نستحق الحرق.. آه والله نستحق الحرق. وكلنا أوسخ من المركوب اللي في رجلي ده.
أنا عبد المتين، بدأت حكايتي عندما رأيت ما يفعله الحاج محمود بالأرض، وقتها عرفت إن هي دي الفرصة اللي ربنا بعتها لي، لينتشلني من الفقر المدقع، إلى متى سأظل شيال أجير؟ أقوم بجر العربات الحديدية كالحمار، أو أحمل على اكتافي الرمل والطوب مقابل اللقمة أو بعض الجنيهات التي لا تكفي لسد الأفواه المفتوحة في البيت.
في هذا اليوم كنت أحمل علف البهائم التي وضعها الحاج محمود في الأرض، في كل مرة كنت أترك أشولة العلف على باب الأرض المصفح، ولكن في هذا اليوم رأيت الباب مفتوح فدخلت، وضعت العلف على الأرض، عندما سمع حماده الأبيض الغفير صوت الأكياس وهي تصطدم بالأرض خرج من غرفته التي ينام بها أو الكشك الذي تم بناءه على الأرض لينام به ليحرس البهائم في الليل، خرج حماده مهرولا وكأنه أمسك بي وأنا أسرق أحد الجواميس وصاح، ((أنت إيه اللي جابك هنا يا جدع. أمشي أنجر من هنا مش قولنا لك تبقى تسيب الحاجة على الباب)).
كان مرتبك أخذ بساعدي وهو يدفعني خارج الأرض، ظننت إنه كان مع واحدة من النسوان إياهم، أصل حماده نسوانجي من الدرجة الأولى، هو دهور حاله كده غير النسوان؟! كان أبوه مرتاح ولكنه صرف ورثه كله على بتاعه حتى أصبح غفير وعامل عند الحاج محمود.
بس أنا وقتها قولت الحكاية فيها شيء غير مفهوم، حماده الأبيض لا يعرف الخجل، ذات مرة كنت أحمل الطوب إلى الأرض وقت بناء سور الأرض والغرفة، حينها رأيته وهو فوق واحدة مشلحا الجلابية، مستترين خلف شكائر العلف، وعندما رآني لم يندهش أو حتى يترك ما كان فيه وكأنني دخلت عليه وهو يصلي مثلا، فهو لا يعرف الخشاء ودائمًا ما يفتخر بمغامراته بل تشيع عنه بعض القصص الأسطورية على لسان نساء ورجال البلد، الذين يتحاكوا عن قدرته الجنسية وطول وعرض وضخامة قضيبه.
ولذلك لم يهدأ لي بال حتى تسللت إلى داخل الأرض في الليل، بعدما اعتليت سور الأرض من موضع منخفض يفصل بين سور الأرض والمسجد، واقتربت من غرفة حماده، سمعت صوت الحاج محمود وهو يصيح ارتعدت ولكن دهشتي من وجود الحاج محمود في الأرض في هذه الساعة جعلني أكمل ما جئت من أجله، الصقت أذني بحائط الغرفة:
- إحنا كده وصلنا لحوالي عشرة متر ومفيش زفت حاجه.
- ده المكان اللي الشيخ قال عليه؟ هو أنا جايب من عند أمي.
بالطبع لو رآني الحاج محمود وقتها لدفنني حيث وجدني، ولكن هو الله، جلبت سلم كان موضوع على الجدار الفاصل بين مخزن العلف والبهائم، سعدت عليه وكدت ان اتعثر بسبب الجلباب، ومن فتحة صغيرة من سطح الغرفة المغطى بالقماش رأيت الحاج محمود.
كان يقف بجوار ابنه الكبير عزيز، عند باب الغرفة، على مقربة منهم حمادة الأبيض، كلهم يلتفون حول حفرة دائرية كبيرة بعرض وطول الغرفة، بداخل الحفرة أشخاص يحملون فؤوس، بالطبع في هذه اللحظة تأكدت أن ما خطر في بالي صحيح، ولكن سؤال وحيد ظل في بالي حتى الآن، لماذا يبحث الحاج محمود عن الآثار بالرغم من العز الذي يعيش فيه؟
خرجت كما دخلت، لم يراني أحد، في اليوم التالي ذهبت إلى سنترال واشتريت خط من تلك الخطوط المسروقة، اتصلت بالحاج محمود مباشرة، قلت له إنني أعرف كل شيء وسأبلغ عنه، وعندما قال لي طلباتك لم أتردد قلتها، ربع مليون جنيه، بعد ما أغلق الخط في وجهي ظننت أنه سيرفض أو سيفاوضني، لأن المبلغ كبير، وأنه لن يدفع بهذه السهولة، الحق إنني كنت لا أعرف أكبر من هذا المبلغ، وكذلك أحلام أمثالي من الفقراء.
بعد الحصول على المبلغ قمت بإحراق العربة الحديدية التي كنت أجرها، وحرقت معها الأيام القديمة، أيام لا يعيدها الله، واشتريت دكان فاكهة لأكل بالحلال.
بالطبع الحاج محمود كان لا يعرف إنني من اتصلت به وأنا الذي أخذت المبلغ ولكن غبائي هو إنني أظهرت الفلوس بسرعة، ولذلك حين رأيت بعض رجاله قادمون في الليل نحوي وأنا في الدكان، عرفت أن عزرائيل داخل وسطيهم، ولكن الحمد لله عندما تظاهرت بالموت بعد ضرب مبرح تركوني وانصرفوا ولكنني أقسمت بحق كل كف نزل على وجهي وقفايه أن أخذ حقي، فقررت أن أبلغ الحكومة.
الآن يقولون إن فلوسي حرام، ولكن من يقولون هم بأنفسهم يبحثون أسفل بيوتهم عن الكنز، لن أتحدث عن بعض المشايخ الذين قالوا على المنابر أن من يجد شيء في الأرض فهو رزق أرسله الله اليه. ولكن ما المانع فأن نعيش كما يعيش باقي خلق الله؟
5
في البداية أنا حمادة الأبيض، غفير الأرض الجديدة للحاج محمود، أو بمعنى أصح غفير أي أرض يشتريها الحاج محمود في أي مكان، عندما جاء عزيز إلى الأرض وهو يصيح:
- رجعوا كل حاجه زي ما كانت الحكومة جايه
كنت على يقين أن عبد المتين العتال الذي أصبح صاحب محل فاكهة بفضل ما لهفه من الحاج محمود، هو الذي أبلغ الحكومة، ولكن حين جاءت الحكومة وخرجت كما دخلت الأرض، رجع كل شيء كما كان، الموضوع مخطط له جيدا بطريقة معينة يمكن أن نخفي كل شيء وفي دقيقة نعود للعمل كما كنا بطريقة لا تخطر على عقل بشر ولا مكان للحديث عنها هنا.
لا أعرف لماذا كتب الله لي أن أكون من الناجين، هل لأروي ما رأيت؟ أم لشيء آخر أجهله، أعرف أنكم تريدون أن تعرفوا هل الحاج محمود كان وراء مقتل الشاب الذي كان بيته ملاصق لأرض الحاج محمود الأخرى في الدرب الأحمر أو في اختفاء الضابط ومأمور المركز هنا في البلدة، الحقيقة.. لا الحقيقة لا تقال ولا أحد يعلمها، ولكني سأقول ما أريد قوله ولا أعرف هل حقيقة أم لا.
في البداية الناس في كل مكان يظهر فيه الحاج محمود يعلمون أن مهنة هذا الرجل ليست تجارة الخيوط كما هو معروف، فتجارة الخيوط لا تأتي بكل هذه الأراضي التي يتم بناء العمائر عليها، وتحديدًا في الأماكن التي كان الحاج محمود يذهب اليها لشراء البيوت القديمة وهدها وبناء عمائر جديدة، تلك المناطق العتيقة في القاهرة مثل الدرب الأحمر والسيدة زينب والجمالية.
ولكن لا أحد يستطيع أن ينطق بكلمة واحدة، أو مجرد التفكير، فالفلوس التي كان يوزعها الحاج في الأعياد تخرس الألسنة، وأكياس اللحمة التي توزع على الجميع في مولد سيدنا الحسين أو في العيد الكبير تقطع الألسنة تمامًا وتشلها.
كما أن بناء مسجدين على أرضين أشتراهم الحاج محمود بجانب انتزاعه لهذه الأرض من فم الكنيسة، جعلوه رجل صالح في عين الجميع، رجل متدين، يعرف ربنا يقيم مساجد وبيوت لله في الأرض.
وهذا الشاب الذي كان يسكن في العمارة المجاورة لأرض الحاج محمود بالدرب الأحمر أو مأمور القسم الموجود هنا في القرية والذي أخذ يتردد على الأرض كثيرًا حتى مل الحاج محمود منه، حاول الحاج محمود ابعادهم عن طريقه، حاول أن يتودد إلى إبراهيم كثيرًا جاء له بعقد عمل في شركة محمول كبيرة، ثم بعقد آخر للعمل في أحد البنوك، ولكن الشاب كان غبي وعنيد، وكذلك المأمور الذي حاول الحاج نيل رضاه بكل وسيلة.. ولكن في كل الأحوال أنا لا أعلم هل ما جرى للشاب أو اختفاء الضابط وراءه الحاج محمود أم.. لا.
ولكني أريد أن أقول كلمة أخيرة، الحاج محمود ربنا يرحمه راجل صالح بصحيح ويعرف ربنا، السبحة لا تترك يده، يقيم دروس لتحفيظ القرآن في المساجد التي بناها. كما أن جميع الشيوخ أو الذين هم أعلم بأمور الدنيا والدين أكثر مني قالوا إن من يجد شيء في أرضه فهي له، فما الخطأ الذي فعله الحاج محمود؟
خاتمة أولى
تلقى اللواء محمد الذهبي مدير أمن محافظة (...) إخطار من مأمور مركز شرطة (...) بمصرع خمس أشخاص أثناء التنقيب على الآثار، وفيما يلي أسماء أصحاب الجثث التي تعرفت عليها الشرطة.
عزيز. م. غ. وشهرته عزيز الترزاكي العمر 26.. حاصل على بكالوريوس تجارة.
شفيق. م. أ. وشهرته شفيق الونش العمر 35. عاطل.
جمعة ح. ع. شهرته أبو حسين العمر 40. عاطل
السيد. خ. ف. شهرته السيد خميس العمر 33. عاطل.
توفى الحاج محمود الترزاكي إثر أزمة قلبية حدثت له بعد تلقيه نبأ مصرع ابنه الوحيد على خمس بنات هم أبناء الحاج محمود الترزاكي.
وقد ظلت تحريات وعمليات بحث الشرطة عن الأسماء التي تم ذكر أسمائهم، لمدة أسابيع بعد أن قام بعض أهالي المفقودين بإبلاغ الشرطة عن غيابهم، عدا الحاج محمود الذي كان لا يعلم بما يجري لانشغاله ببعض صفقات تجارة الخيوط، وظن أن غياب ابنه لسفره أو لقضاء العطلة في أحد الشاليهات.
مواصفات
الحفرة بقطر أثنان متر، وبعمق سبعة عشر متر، في الجانب الغربي من الحفرة سرداب بطول ثلاثة متر ونصف، وارتفاع ثمانون سنتي متر.
خاتمة
كلما مرت الأيام ازدادت عمليات الحفر، وزاد عدد الغائبين، وجدوا جثة العامل في المسجد المجاور للأرض وقد ابتلعته حفرة صنعها في غرفته داخل المسجد. الغني قبل الفقير يبحث عن الكنز، الفقير يحلم بالثراء السريع، والغني ليزيد البحر، حملات توعية وتجريم ورجال دين يتحدثون عن التحريم في العلن والتحليل في السر، بعضهم كان يصنع الحفر ليموت لا لينجو ويطفو على سطح الحياة، بعضهم قتلوا أطفالهم لفتح الكنز ودفنوهم في نفس الحفرة، رجل قتل زوجته وطفليه بعد أن تأكد أنه لن يستطيع توفير السعادة لهم على الأرض فذهب بهم إلى السماء ووضع أجسادهم في الحفرة التي شنق نفسه فوقها.
على باب أحد المساجد التي بناها الحاج محمود كان بحر العبيط أو الشحاذ يسير بجلبابه المرقع ومعه القطط والكلاب والطيور والنمل وكل الكائنات التي يطعمها يسير بملابسه الرثة دون أن يلتفت له أحد بعد أن اعتادوا وجوده ولكنه في هذا اليوم أخذ يصيح:
- إحنا في زمن الحفر.