رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

داخل كل بيت مغلق هناك «صيّاد» وهناك «فريسة»

كوكب الأرض بأسره مؤسس على العلاقات العمودية ولكن بأشكال ودرجات متفاوتة، والعلاقات العمودية هى العلاقات التى تقوم بين أعلى وأدنى، أفرادًا وجماعات، بعض هذه العلاقات تستطيع إخفاء هذا المبدأ بين أعلى وأدنى، عن طريق غسل العقول بالإعلام والثقافة والمفاهيم والتعليم والأديان والفن.
وبعض هذه العلاقات لا يهمه افتضاح الأمر بل ويفتخر بوجود أطرف أعلى وأطراف أدنى،  باعتبار أن هذا هو الوضع الأمثل لمسار الحياة، بالطبع لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التأمل العميق أو إلى قراءة صفحات التاريخ، لندرك أن العلاقات العمودية بين أعلى وأدنى، هى من بقايا عصور العبودية، من المفروض أنها انتهت بحكم الثورات وتطور المجتمعات ووعى الشعوب وحركة الحياة المتجددة.
لكن النظرة السريعة لأحوال كوكب الأرض، ذلك الكوكب البائس التعيس لمتحضر شكلًا الهمجى مضمونًا المتعصب والعنيف خلقًا ودينًا وطباعًا المتخم بآليات القهر، الممتلئ بأوكار الفقر والبطالة والجريمة والمخدرات والبغاء وتجارة الأسلحة والأعضاء البشرية والبلطجة المحلية والدولية ومنطق الحروب والاستغلال وانتشار الأمراض العضوية والاضطرابات النفسية والعقلية والانحرافات الجنسية بأشكال مختلفة وتراجع حريات التعبير وبرطعة الأصوليات الدينية.
وأعتقد أن الجذر الخصب الذى يغذى هذه العلاقات العمودية بين أعلى وأدنى، هو أن الطرف الأعلى ينظر إلى نفسه باعتباره الصيّاد القوى البارع الماهر فى نصب الفخ أو القاء الصنارة والطرف الآخر الأدنى هو الفريسة الضعيفة معدومة القدرات المغلوبة على أمرها كل ما تجيده هو الوقوع فى الفخ أو التقاط طُعم الصنارة.
وعملية الصيد هذه بين طرف أعلى وطرف أدنى، أقدم مهنة فى التاريخ مهنة أدرك بها البشر منذ الوجود البدائى أنها هى مصدر البقاء على قيد الحياة ومصدر الغذاء ومصدر الماء ومصدر القوة ومصدر الاستعلاء والهيبة، كم أكره عملية الصيد التى مارسها الجنس البشرى منذ الأزل وما زال يفتخر بها بل ويراها عنوانًا للتحضر والتأقلم والارتقاء وإن كنت أغفر للكائنات غير البشرية مثل الطيور والحيوانات أنها للبقاء على قيد الحياة لابد لها من الصيد إلا أننى مع البشر أعتبرها جريمة أو عارًا يدعو إلى الخجل والاشمئزاز، لا إلى الافتخار والتباهى بالتفوق.
هل هذا معقول؟ أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يقتل ويصطاد الآخرين وهو لا يشعر بالجوع ولا يحتاج إلى سفك الدماء لكى يواصل الحياة؟ بل يفعل ذلك وهو "شبعان" على عكس الطيوروالحيوانات حتى المتوحشة والمتنمرة والجارحة منها لا تؤذى ولا تقتل ولا تصطاد إلا لتأكل أو تطعم صغارها.
أكره العقلية التى تقف وراء الصيد والدوافع النفسية التى تحفز على عملية الاصطياد عقلية الصياد الأقوى والفريسة الأضعف، الصياد الذى يخطط ويتربص ويراقب ويترقب ويتجسس ويخطف يصنع الشِباك ويرتب الفخ ويعد المصيدة وعندما تقع الفريسة يحتفل ويفرح ويأكل ويشرب ويسمى الأمر انتصارًا وتفوقًا، إذن الصياد والفريسة، علاقة غير متكافئة أساسها السيطرة من جانب الصياد والخضوع من جانب الفريسة.
وهذا منطق نجده فى العلاقات الإنسانية بين الأفراد بين النساء والرجال وبين الجماعات والدول فى أى علاقة هناك منْ يصطاد وهناك منْ تخدعه المصيدة هناك منْ يطعن بالسِكين وهناك منْ يسيل دمه، هناك منْ يأكل وهناك منْ يؤكل، هناك منْ يختبئ بين الأشجار فى الأدغال فى الغابات يرتدى قناعًا مخادعًا وربما لا يبالى و لا يرتدى أى قناع ينتظر دون ملل قدوم الغنيمة وينشن بدم بارد وهناك منْ يتلقى الرصاصة البارعة فى الصدر أو فى القلب، ما أكثر محترفى الصيد وما أكثر محترفى الوقوع.
إذا أردنا فهم علاقة معينة مشكلاتها واضطرابها وآفاق مستقبلها فما علينا إلا تحديد منْ يقوم بدور الصياد ومنْ يقوم بدور الفريسة، وأليست الذكورية المتأصلة فى الجنس البشرى والواضحة فى الثقافة والإعلام والتربية الدينية وقوانين الأحوال الشخصية وعلاقات الحب هى التراكم التاريخى الطويل لعقلية "الصياد" الرجل و"الفريسة" المرأة؟
لأننى كاتبة وشاعرة أرفض ما أسمعه دائمًا أن الكتابة أو الشِعر هى عملية اصطياد للكلمات، لا أقبل أن أكون الصياد وأن تكون القصيدة هى الفريسة، علاقة الكاتبة والشاعرة بالكلمات هى عناق حقيقى، شغف متبادل، ولقاء عاطفى، ورغبة مشتركة، هى أبعد ما تكون عن عقلية "الصيد" المغرورة، المتسلطة، العنصرية.
"الصيد فى الماء العكر" تصف الشخص الذى يصل على أكتاف الآخرين والشخص الذى ينتهز وجود ضعف ما أو سوء فهم ما أو مشكلة ما لكى يربح قيمة أو مالًا أو مكانة أو علاقة أو شهرة، الصيد فى "الماء النظيف" لا يروق لى ولكن "الصيد فى الماء العكر" أكثر افسادًا وتلوثًا ومتعة أشد مرضًا، وما أكثر "الصيد فى الماء العكر" الذى يحيط بنا ويفسد حياتنا ويعطل رحلتنا وتقدمنا، بل إن هناك مجموعة من البشر كل اختصاصها هو التربص بالسقطة واللقطة والبحث عن القطط الفاطسة كما يقولون تخصص قديم، يتغير مع اختلاف العصر وتجدد التحديات والأزمات، تتغير  فيه "الشِباك" وتتفنن العقول فى صناعة الأفخاخ والمصائد.
حصار من "الصيد فى الماء العكر" يخلق شائعات، يفبرك أخبارا، يزيف أحداثا، يزور أرقاما، يقص ويلصق الصور والنشرات.
هل نسمح لهذا الحصار المتربص الصائد فى الماء العكر، أن يعكر حياتنا ويؤثر على ثقتنا وينال من إرادتنا؟ لا أعتقد  فالماء العكر لم يحدث أبدًا أن أطفأ ظمأ الناس، أرض النيل التى تعهدت على مر الزمان أن تحقق لنا الارتواء، لن يلوثها "شوية" ماء عِكر يسرى هنا أو هناك.
وعلى مستوى كوكب الأرض وفى بلادنا فإن انتهاء العلاقات العمودية بين أعلى وأدنى، مرهونة بنسف ثقافة "الصيّاد والفريسة" من العقول والقلوب، بكل أسف داخل كل بيت مغلق على كوكب الأرض هناك صيّاد ما وهناك فريسة ما، فى بعض الأحيان يتبادلان الأدوار بعض الوقت لكن سرعان ما يأخذ كل واحد دوره الأساسى المرسوم المقنن الشرعى.
من بستان قصائدى
- إذا كان من الجنون ألا تبهجنى أيام الأعياد
- لا أهتم بالمونديالات والمهرجانات
- أخلف كل التوقعات والظنون
- لا أحضر الأفراح والجنازات
- من صخب الناس أهرب لأختبئ فى قلبك الحنون
- فألف أهلًا وسهلًا بالجنون إذا كان من الجنون
- ألا يفرحنى المال والبنون
- أتوقف حين يهرول الآخرون
- أصمت حينما يتكلم الناس أتكلم حينما بالصمت يلتحفون
- فألف أهلًا وسهلًا بالجنون إذا كان من الجنون
- أن أفضح الضحك على الذقون
- أعرى التجارة بأجساد النساء والسوق الرائجة لفتاوى الفقهاء
- أترك وجهى دون مساحيق لا أضع الكريمات والعطور
- وأكتفى بالماء والصابون فألف أهلًا وسهلًا بالجنون
- إذا كان من الجنون أن أشتهى وطنًا
-  لا يتعدى سكانه 2 مليون لا يتعاطى الدين كما الأفيون
- ينقد بحرية السلف والأقدمون يضمن للنساء كرامة البشر
-  يفسر بإرادته الشرع والقانون فألف أهلا وسهلًا بالجنون