رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيستم البنك

أدخلت كارت الفيزا في ماكينة البنك، وكتبت الرقم السري وانتظرت، وقالت لي الماكينة: "الكارت لا يصلح، راجع الفرع". بالطبع شعرت بخيبة أمل. وأخرجت الكارت من الماكينة.

وبدت لي ماكينة البنك باردة غشيمة، مثل موظف لا يفهم، ولا إجابة عنده خلاف ما قاله، وحاولت أن أجد التاريخ على البطاقة، ولكنه كان ممسوحا ربما من كثرة الاستعمال، ولم أتمكن من قراءته.
كنا في اليوم التاسع من الصيام.

وكان الوقت عصرا، وكان على أن أفكر جليا في الذهاب إلى البنك في اليوم التالي. فقد كان علىَّ أن أستعد بارتداء الملابس الرسمية، بدلة ورباط عنق وقميص وبنطلون وكل هذا يجب ربطه بحزام من الجلد.

حتى لا يبدو التهدل الذي أصبح عليه جسدي واضحا. مع أنني تعودت على ارتداء الجلباب البلدي المريح في كل شىء، فلم يعد هناك ما يجبرني على تكتيف نفسي ببدلة وحذاء وحزام جلد.

كنت أعرف أن البنوك صارت أكثر زحمة من الأسواق، من أسواق المواشي. وأصبحت تعاملات موظفيها، خصوصا الشباب منهم باردة، ويبدو عليهم الضجر. فضلا عن تعقد إجراءات إثبات الشخصية أو نسيان البطاقة أو الكمامة.
في اليوم التالي ذهبت في الساعة الواحدة، متسلحا بالإجراءات الاحترازية وبطاقة تطعيم كورونا، الوصول للبنك صعب في هذا اليوم بالذات، حيث سوق المدينة الأسبوعي، والبنك في قلب السوق، فأخبرني موظف الأمن بأن المواعيد في رمضان تنتهي في الواحدة والنصف، أخبرته بأنها لم تصل للواحدة والنصف، فأشار بكفه إلى فمه، بما يعني أنه صائم، ولا يتحمل، ولم يكن الأمر في حاجة لمجادلة، وعدت وانتظرت لليوم التالي.

في اليوم التالي ذهبت وكان الحادي عشر من الصيام. وذهبت في موعد ملائم تماما، منتصف النهار في موعد أذان الظهر. وكما توقعت كان الزحام لا يطاق على درجات السلم المؤدي لباب الدخول الضيق، وباب واحد لا غيره. حيث يحتشد موظفو الأمن مع شرطة الحراسة، لإزاحة أعداد المواطنين الذين يريدون دخول البنك.

الحقيقة هو زحام غير مبرر، المتزاحمون بينهم بعض المراهقين والسيدات، والتلاصق مريب، ولا أستبعد وجود نشالين في هذا الجو المناسب تماما لهم.

المهم تمكنت من الدخول بفعل ضغط الناس، ودفعهم لي، اتجهت إلى موظف الاستعلامات، وأخبرته بالكارت الذي انتهي، أعطاني رقمًا وأشار بهدوء إلى مكتب يحتشد أمامه أكثر من عشرة أشخاص وموظف واحد يدفن وجهه في كمبيوتر وفوق رأسه لوحة ضوئية تبين الرقم الذي يتم التعامل معه. كان بيني وبينه أكثر من عشرين فردًا، بحثت عن كرسي لأجلس فلم أجد، كانت الكراسي كلها مشغولة، استندت على حائط، ريثما أسمع رقمي، مضى نصف ساعة، ثم ساعة، وساعة ونصف والرقم على اللوحة ثابت لا يتغير، والموظف لم يرفع رأسه عن الكمبيوتر، وسمعت من يقول بضجر "السيستم وقع".

كنت قد استشعرت حالة من الصمت مخالفة للضوضاء المألوفة في التعامل مع البنوك، من أصوات النداء الآلي على الأرقام، والزحام عند النوافذ التي ينبغي الذهاب إليها، ورأيت بعض موظفي البنك بملابسهم المميزة يتجولون بين الناس وفي أيديهم أوراق. مما أكد لي أن العمل توقف.

بدأ الملل والضجر يتسلل للناس، وكانت الساعة تقترب من الثانية. عندما أعلن أحد الموظفين أنه يعتذر للناس بأن السيستم لا يعمل ويجب أن يعودوا غدًا. 
صاح واحد من المنتظرين: 
- اليوم هو الأخير للسداد ولو تأخرت سأدفع غرامة.
- لا دخل لنا. 
- إزاي؟
- هو كدا. أنت حر. 
وكان هذا هو منطق البنك، أو ما يسمي بالإذعان، وجاء مدير البنك وحاول أن يشرح للناس أن هذا العطل على مستوى الجمهورية. وبالطبع نسي أن هناك مسئولية قانونية تجاه البنك إذا نجح العميل في إثبات أن البنك هو المتسبب في التأخير.

المهم أن الناس أصابها الخرس ولم تتكلم، لا شك أن كل واحد كان مشغولا بما يدور في عقله بسبب تأخير صرف الحوالة أو تجديد الفيزا أو انتظار تحويل أو غيره من الأمور المالية التي ارتبط بها الناس.

كنت أعرف أن هذ الفرع من البنك في مدينتنا بوسط الصعيد جديد، وكان هناك فرع قديم في شارع رئيسي، وله باب متسع، والمكان أكثر اتساعا. ولكنهم تركوه بحجة الصيانة، واستأجروا هذا المقر في برج من أبراج المدينة الشاهقة لا يتسع لحركة البنك المتنامية.

كان من المفترض أنه بعد تصريح مدير البنك أن تخرج الناس وتنصرف من البنك، ولكن الناس ظلت في مكانها، وأنا واحدا منهم، لم أصدق أن هذا حال أكبر بنوك مصر وأكثرها عراقة، وتداخلا في مصالح الناس، ألح على سؤال لم أجد له إجابة، حتى الآن، ربما لأن الإجابة في كل الأحوال كارثية بالمعنى المعروف للكلمة، ولم أستوعب أبدا الفكرة التي طرأت على تفكيري، كان السؤال:

- هل صحيح أن السيستم وقع؟  
وإذًا لو وقع بالفعل، ما مصير كل المعلومات التي تهم كل الناس في مصر، وهل سنعود مرة أخرى إلى الموظف البيروقراطي المرتشي؟
في اليوم الثالث عدت للبنك، أخذت الرقم. كان السيستم يعمل، كان الرقم في اللوحة يتحرك تقريبا كل 20 دقيقة. ومن لا يعمل كان الموظف بطيء الحركة، كانت الساعة الواحدة ورقمي ينتظر 15 فردا حتى أتشرف بالمثول أمام الموظف، كان هناك من يجادل معه لأنه لم يحمل رقمًا، ومن يجادل لأنه مستعجل.

ومن نسي إثبات الشخصية، حتى مَرَّ مدير البنك فأخبرته برقمي وأنني لليوم الثالث في البنك. فأخذ مني البطاقة وأعطاها للموظف وقال: مشي الأستاذ.