رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العالم فى ظل العقوبات الاقتصادية

فى أثناء كتابة هذا المقال كانت أنظار الولايات المتحدة الأمريكية توجه مؤامرتها وعقوباتها صوب باكستان، التى تجرأ رئيسها على أن يعلن حياده تجاه الأزمة الأوكرانية- الروسية، ولم يؤيد أمريكا، بل ويزيد من إنتاجه الزراعى من أجل الاكتفاء الذاتى، وتفكر أمريكا فى كيفية تدبير انقلاب عليه أو اغتياله أو فرض عقوبات اقتصادية، وذلك لموقع باكستان الاستراتيجى المجاور للصين وروسيا وإيران وأفغانستان، هذا بجانب كونها دولة نووية.

تفرض أمريكا على مر العصور سياسة العقوبات الاقتصادية لتركيع الدول والرؤساء والحكومات والشعوب التى ترفض أن تدور فى فلكها أو تخضع لسياساتها الرأسمالية المتوحشة أوتنتهج نهجا لصالح خير ورفاه شعوبها، والحصار الاقتصادى لكوبا منذ ستينيات القرن الماضى خير مثال على ذلك، ثم الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفيتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى تفككه وانهياره فى نهاية التسعينيات، وتمتد سياسة العقوبات الاقتصادية لإيران وفنزويلا، والحرب التجارية مع الصين مع اعتلاء دونالد ترامب حكم أمريكا فى 2017، واستمرارها وتصعيد العداء للصين فى عهد الرئيس الحالى جو بايدن، ثم فرض العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا عقب الحرب الروسية- الأوكرانية، فى الرابع والعشرين من شهر فبراير 2022.

لم تدرس الولايات المتحدة الأمريكية أثر تلك العقوبات التى ارتدت عليها وعلى الدول الحليفة معها وعلى دول الاتحاد الأوروبى، حيث إن معظم دول العالم تعتمد على استيراد احتياجاتها الغذائية، وعلى رأسها القمح من روسيا وأوكرانيا، هذا بجانب الأسمدة والذرة الصفراء، والمواد الخام النادرة التى تدخل فى مكونات الصناعات التكنولوجية، وأيضا اعتماد دول أوروبا على 40% من احتياجاتها من النفط والغاز من روسيا.. مما أدى لأزمة غذائية وارتفاع الأسعار فى معظم دول العالم، خاصة الدول الإفريقية التى تعتمد على استيراد أكثر من 25% من القمح من روسيا، كما أدت العقوبات لارتفاع أسعار الطاقة والوقود والمحروقات بنسب عالية لا تتسق مع دخل الأفراد فى كل دول العالم.

لم تكتف روسيا بأن تكون رد فعل لهذه العقوبات، ولكن من الواضح أنها درست جميع الاحتمالات وكيفية الرد عليها، فارتدت نتائج هذه العقوبات على صانعيها، وطالت شرارة النار ثوب أمريكا وأوروبا.
فقد بدأت كل من روسيا والصين استخدام عملتيهما المحليتين «اليوان الصينى والروبل الروسى» كعملتى تبادل فى التجارة الخارجية بدلا من الدولار.

حاولت الولايات المتحدة أن تجد بدائل لسوق النفط والغاز عن طريق الدول الحليفة والدول المنتجة للغاز والبترول دون جدوى، وعندما فشلت فى توفير البدائل دعت لمقاطعة البترول الروسى، مما أثر على سوق النفط وارتفعت أسعار الطاقة، وعانت جميع شعوب العالم من ارتفاع الأسعار الجنونى، وارتدت العقوبات على من فرضها، سواء أمريكا، أو الاتحاد الأوروبى الذى تضرر كثيرا خاصة ألمانيا وفرنسا.

وفى الوقت الذى تتشاور فيه الولايات المتحدة الأمريكية مع دول أوروبا من أجل تشديد العقوبات على روسيا، حذر جيمس ديمون، رئيس بنك «جى بى مورجان الأمريكى»، من خسائر تصل لمليار دولار بسبب العقوبات، ومع استمرار فرض العقوبات ستستمر الخسائر فى الزيادة.

وإذا انتقلنا لما تم فى الأيام الأخيرة من إعلان روسيا عن ربط عملتها المحلية بالذهب، بجانب ربط اليوان الصينى بالذهب منذ فترة، نجد أن الروبل واليوان تزداد قوتهما الاقتصادية على حساب تقليص الدولار فى السوق العالمية؛ نظرا لبقاء الدولار كعملة ورقية ليس لها أية ضمانات. 
كما قررت كل من الصين وروسيا التعامل التجارى مع الهند وإيران بالعملتين المحليتين الهندية والإيرانية، وقدمت روسيا تسهيلات تجارية مع الدول الصديقة، ومنها مصر، والعديد من الدول التى أيدت روسيا أو اتخذت موقفا حياديا فى الجمعية العامة للأمم المتحدة.

إن العالم على أبواب تغيرات اقتصادية وتغيرات فى نظامه المالى المفروض علينا من قبل القطب الواحد الذى يصارع من أجل البقاء متسيدا العالم، ولا يعترف بصعود أقطاب أخرى «الصين وروسيا» تزاحمه بفعل قوتها الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية والفضائية، وبفعل المصالح المشتركة بين دول العالم، ولا يعترف بتصدع الأحلاف الموجودة، وصعود أحلاف أخرى.

إننا فى أشد الحاجة لعالم جديد تسوده قيم المساواة والعدالة والإخاء والحريات، عالم تُبنى فيه العلاقات على أساس المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة، وفى حاجة لمنظمة جديدة للأمم المتحدة لا تتحكم فيها بعض الدول، منظمة تعمل لصالح شعوب العالم ولإرساء الأمن والسلم الدوليين.