رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الساحر الروسي ينصب فخه في دونباس

أكد كبير جنرالات الولايات المتحدة في أوروبا للكونجرس، الإسبوع الأخير من شهر مارس الماضي، أن الولايات المتحدة تشهد بدء روسيا في سحب بعض قواتها المقاتلة بالقرب من العاصمة الأوكرانية كييف إلى مناطق أخرى، فيما قد يمثل تحولاً استراتيجياً كبيراً من الكرملين، بعد شهر من حربه في أوكرانيا.. ويمثل القرار، الذي أكده الجنرال تود وولترز، رئيس القيادة الأوروبية الأمريكية، والقائد الأعلى للحلفاء في حلف شمال الأطلسي، خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ، تحولاً لافتاً للنظر من روسيا.. وكان مسئولون أمريكيون وأوروبيون يعتقدون في السابق أن موسكو لديها خطط للاستيلاء على العاصمة الأوكرانية، التي يقطنها أكثر من مليوني شخص، في محاولة للإطاحة بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتنصيب حكومة موالية لموسكو، فيما أكدت وزارة الدفاع الروسية أنها اختارت (خفض الأعمال العدائية بشكل كبير) في اتجاه كييف وتشيرنيهيف، وذكرت شبكة سي إن إن لأول مرة، أن الولايات المتحدة بدأت بالفعل في رؤية تحركات مجموعات تكتيكية تابعة للكتيبة الروسية نحو الشرق.
وقال مسئول دفاعي أمريكي كبير، إن روسيا تعيد تركيز حملتها العسكرية على منطقة دونباس، التي تضم دولتين انفصاليتين مواليتين للكرملين، لاستعادة نفوذ التفاوض بشأن أوكرانيا، من خلال قطع القوات في الشرق، وإقامة وجود احتلال في المنطقة، (إنهم يعيدون تقييم أهدافهم الاستراتيجية).. فماذا وراء تراجع روسيا المفاجئ؟ .
حدد المسئولون والخبراء بعض السيناريوهات التي يمكن أن تحفز روسيا على تخفيف الضغط عن العاصمة الأوكرانية.. كما يقول جاك ديتش، مراسل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) والأمن القومي في مجلة فورين بوليسي، وروبي جرامر، مراسل الدبلوماسية والأمن القومي في نفس المجلة.. أن الجيش الروسي أطلق على المرحلة الأولى، ما يسمى بالعملية العسكرية الخاصة ـ رمز الكرملين للغزو الأوسع لأوكرانيا ـ وهذه قد انتهت.. وألمح كبار الجنرالات الروس إلى أنهم سيبدأون التركيز على شرق أوكرانيا، ربما في محاولة لاقتطاع مناطق انفصالية أوسع من ذي قبل، لوضع الأساس لمفاوضات السلام.. فمن (أجل زيادة الثقة المتبادلة، وخلق الظروف اللازمة لمزيد من المفاوضات وتحقيق الهدف النهائي ـ التوصل إلى اتفاق وتوقيعه ـ تم اتخاذ قرار بتخفيض النشاط العسكري بشكل كبير في اتجاهات كييف وتشيرنيهيف)، كما قال ألكسندر فومين، نائب وزير الدفاع الروسي، خلال تصريحات بثتها وسائل الإعلام الحكومية الروسية.
وبعد شهر واحد من الحرب، حيث تشير التقديرات إلى أن روسيا فقدت عدة آلاف من الجنود بالفعل، أشارت المحادثات التي تمت في اسطنبول بتركيا، إلى تراجع طفيف في جهود روسيا الأولية لإخضاع كييف وبقية البلاد بالقوة، حيث قدرت المخابرات البريطانية، أن روسيا تعزز دونباس بمقاتلين أجانب، بما في ذلك إعادة نشر الآلاف من المقاتلين من مجموعة فاجنر العسكرية الخاصة من سوريا وأفريقيا، للانضمام إلى القتال.. (نعتقد أن هذا هو إعادة تموضع ، وليس انسحاباً حقيقياً)، قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية جون كيربي.. وأضاف (يجب أن نكون مستعدين لمراقبة هجوم كبير ضد مناطق أخرى من أوكرانيا)، وقالت المخابرات البريطانية، إن القوات الروسية في جميع أنحاء أوكرانيا تتمسك (بمواقع الحظر) بينما تحاول إعادة ضبط الجيش.
وأشار دبلوماسيون روس إلى أن خطوة إلغاء الهجوم على كييف، كانت بمثابة غصن زيتون محتمل للحكومة الأوكرانية لإنهاء القتال.. وفي حديثه إلى قناة RT الروسية، قال فلاديمير ميدينسكي، المساعد الرئيسي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يقود الوفد الدبلوماسي الروسي في بيلاروسيا، إن الكرملين لا يريد تعريض العاصمة الأوكرانية لمزيد من المخاطر العسكرية، لأن الأشخاص الذين (يتخذون القرارات) بشأن المفاوضات الدبلوماسية يقيمون هناك.. لكن في العواصم الغربية، هناك شكوك كبيرة حول غصن الزيتون في الكرملين، بعد أن أطلقت روسيا صواريخ على العاصمة، وأفادت تقارير بأنها أرسلت فرق ضرب تابعة لجهاز الأمن الفيدرالي في مناسبات متعددة لمحاولة اغتيال زيلينسكي.. وبدلا من ذلك، يمكن للجيش الروسي، الذي تصدى له بشكل كبير الهجمات المضادة الأوكرانية مؤخراً، أن يستمر في ضرب كييف بالمدفعية، بينما يذهب دبلوماسيو الكرملين للعمل لانتزاع تنازلات على طاولة المفاوضات.. كما أعرب دبلوماسيون غربيون مخضرمون، عن شكوكهم بشأن مبادرات روسيا بشأن محادثات السلام، بحجة أن الكرملين استخدم محادثات السلام في السابق، منذ ضمه شبه جزيرة القرم عام 2014، كغطاء سياسي لتعزيز مكاسبه على المناطق الانفصالية في شرق أوكرانيا.
وقد قدرت المخابرات البريطانية أن روسيا لا تزال تشكل (تهديداً كبيراً) لكييف مع القدرة على ضربها.. وفي مكالمة مع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، والعديد من القادة الأوروبيين، حذر رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، من أن اللعب الدبلوماسي الروسي قد يكون خدعة.. وقال جونسون لرؤساء دول آخرين، إن (بوتين يلوي السكين في الجرح المفتوح لأوكرانيا، في محاولة لإجبار البلاد وحلفائها على الاستسلام).
لقد تسببت حرب روسيا في أوكرانيا في خسائر اقتصادية خطيرة، من خلال ارتفاع أسعار الغاز إلى عنان السماء في جميع أنحاء العالم.. وهناك قلق من دول أوروبا الشرقية، من أن العواصم الغربية قد تستسلم للضغوط الاقتصادية، للبحث عن مخرج في وقت مبكر جداً، حتى في الوقت الذي يبدو فيه أن أوكرانيا تكتسب ميزة في ساحة المعركة.. لكن مثلما أمضى بوتين أسابيع في الاستعداد لغزو أوكرانيا، فإن الزعيم الروسي، ومنذ فترة طويلة، قد يحاول أيضا تضييق نطاق أهدافه لتهدئة العواصم الأوروبية الغاضبة وتحقيق اتفاق سلام فيه إذعان لأوكرانيا.. (ما يفعله هو وضع الأسس لتفسير أنه حقق أهدافه)، قال جيم تاونسند، نائب مساعد وزير الدفاع السابق لأوروبا وحلف شمال الأطلسي خلال إدارة أوباما، وأضاف (سيحسن موقفه حول دونباس، حتى عندما يبدأون المفاوضات بجدية، سيكون له اليد العليا).
وأشار مسئولون غربيون، إلى أن القوات الروسية أصبحت منهكة، بعد أكثر من شهر من القتال المتواصل في أوكرانيا، حيث تنشر موسكو في الصراع ما يصل إلى 75% من مجموعاتها التكتيكية، وهي العمود الفقري للجيش الروسي.. ومن خلال تخفيف الضغط عن كييف، حيث يدور قتال عنيف في ضواحي العاصمة، يمكن للقوات الروسية أن تضميد جراحها لمضاعفة جهودها، وربما جذب المزيد من المدافعين الأوكرانيين نحو الشرق، بعيداً عن العاصمة.. (إنه مثل الساحر، في خفة اليد)، قال تاونسند، (الساحر يجعلك تنظر لشيئ، عندما يفعل شيئاً بيده الأخرى، مثل إعادة الإمداد وإعادة التجهيز).
منذ أسابيع، رأى مسئولون أمريكيون وغربيون علامات على أن روسيا تحاول جلب المزيد من الإمدادات، بعد أن قدمت لقواتها دعماً لوجستياً أكثر مما كان مطلوباً لهجوم خاطف على كييف.. وعلى الرغم من التغيير الاستراتيجي، لا تزال روسيا تترك بعض القوات العسكرية بالقرب من كييف، مما يمنحهم خيار شن هجوم آخر على العاصمة في وقت لاحق.. (ما لا نريدهم أن يفعلوه، هو نقل القوات من كييف إلى دونباس.. هذا من شأنه أن يضعف موقفهم، وربما يحاول الروس السيطرة على كييف مرة أخرى.. ربما كانوا يتجهون نحو دونباس لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم حمل أوكرانيا على نقل قواتها إلى هناك).. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.