رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المثقفون.. والخرافة

يمتاز المثقفون عن غيرهم بقدرتهم على استعمال العقل وتحكيمه في كثير من الأمور، ورغم هذا فإن بعض مثقفينا روجوا للخرافة وكتبوا عنها دون أن يتأكدوا من صحتها. 
ومن الملاحظ انتشار الخرافات بطريقة ملفتة للنظر، فقد أصبح من المعتاد أن نشاهد على قناة فضائية ترويجا لفكر الخرافة، وأن نشاهد مَن بإمكانه أن يعالج مرضا عن بُعد، كما نشرت بعض الصحف أيضا أن هناك علاجا يستخدم فيه لبن الجمال وبولها أيضا، وآخر يستخدم الحمام في علاج فيروس «سي»، وليس غريبا أن يقف أحد الأشخاص ويدعي أن بإمكانه إطفاء الحرائق مجهولة المصدر والتي يقوم الجان بإشعالها، بل وتعقد ندوات في برامج تليفزيونية تروج لهذا الفكر. 

في دراسة أعدها المركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية، أواخر عام 2003، جاء فيها أن هناك أكثر من 300 ألف شخص يعملون في مجال الدجل والشعوذة، نتيجة استمرار اعتقاد الكثير من الأسر المصرية في دور هؤلاء الدجالين في قدرة هؤلاء على حل الكثير من المشكلات المستعصية، مثل تأخر سن الزواج، أو عدم الإنجاب، والعقم، أو فك السحر، وأن كم الخرافات والخزعبلات التي تتحكم في سلوك المصريين ىصل إلى 274 خرافة. 

وجاء في الدراسة أن زيادة أعداد الدجالين تتناسب مع زيادة عدد من يؤمنون بهذه الخرافات، ومنهم متعلمون وذوو ثقافات رفيعة، حتى إن هناك دجالا لكل 240 مواطنا لعلاجه من "الجن"، أو "كشف المستور"، وغير ذلك من لغات السحرة والمشعوذين، وأن 50 في المائة تقريبا من نساء مصر يعتقدن في أمور الدجل، وأن أكثر من يلجأن إليهم من المتعلمات.
لم يقتصر أمر الاعتقاد في الخرافة على هؤلاء الذين ذكرتهم دراسة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فقط، ولكنها شملت أوساط المثقفين المرموقين. 
هناك عدد من مثقفينا على اختلاف ثقافاتهم قد تناولوا تلك الأوهام أو تكلموا عنها دون أن يتنبهوا إلى أن هذا يشكل نوعا من الدجل.  

تحدث المفكر الكبير عباس محمود عن تحضير الأرواح في كتابه «يوميات العقاد»، الصادر عن دار المعارف، في أكثر من موضع، وذكر أنه لا يعتقد فيها، وقال إنه حَضَر جلسات تحضير الأرواح التي كانت تعقدها النسوة في منزله وهو صغير في مسقط رأسه بمدينة أسوان، ولم يقتنع بما كان يدور فيها، وشكك فيها، وقال متهكما: «إن الأرواح تأتي بالإغراء والجزاء» وذكر وسائل الإغراء بأنها تفاحة أو برتقالة أو كمية من البلح تأكلها الوسيطة أو الوسيط بدلا من الروح، وقال العقاد إنه في إحدى تلك الجلسات حَضَّرت الوسيطة روح طفل، وبدأ الطفل يتكلم، وعندما حاول والد عباس العقاد أن يدخل إلى بيته وضعت الوسيطة الخمار على وجهها.
وقال العقاد إن الذي كان يتكلم لم يكن طفلا، وهو الأمر الذي شكك العقاد في المسألة كلها.. وعندما أصبح العقاد مفكرا معروفا أخبره الدكتور على عبدالجليل راضي، المدرس بجامعة عين شمس ورئيس جمعية الأهرام الروحية، أن وليم ستيد، الصحفي الإنجليزي المعروف، اتصل بعد وفاته عدة مرات، وتكلم بنفس صوته وفي حضور معارفه، فأخبره العقاد بأن هذا محال لأن الصوت يعد من الأجهزة الجسدية التي تفني بالموت، وأن الصوت نفسه يتغير مرات ومرات عديدة في أطوار النمو البشري من الطفولة إلى الشيخوخة، فكيف هذا الصوت بعد زوال البنية ومفارقة الروح لهذا الجسد.
وعندما أخبروا العقاد وهم في منزله بأنهم حاولوا استحضار روح الكاتب إبراهيم المازني، وأن روح المازني رفضت الحضور إلى بيت العقاد، قال لهم العقاد إنها المرة الأولى التي يُدعى فيها المازني إلى هذا البيت ويرفض.. وعندما أخبروه بأنهم حضّروا روح عبدالله النديم، طلب منهم العقاد أن يسألوا روح النديم عن المكان الذي كان يضع فيه العقاد المجلات التى كان يصدرها وهي: النديم واللطائف والأستاذ، قال الوسيط إنها موجودة في صندوق، وقال العقاد إنها إجابة عامة لأن الأشياء توضع فى الصناديق، وكان العقاد يضع المجلات على رف محفور داخل جدران البيت، ولم يفطن الوسيط إلى تلك الوسيلة المتبعة في حفظ الأشياء في الأرياف.
وإذا كان العقاد قد أنكر تلك الوسيلة، فإن كاتبنا الكبير أنيس منصور روّج لتحضير الأرواح في كتابه ذائع الصيت «حول العالم في مائتي يوم»، صفحة 234، وقال إنه مارسها فعلا، وقدم شرح وافيا لطريقة تحضير الأرواح بالسلة في كتابه الذي نال عليه جائزة الدولة التشجيعية، كما ذكر في الكتاب أن السفير المصري في جاكرتا في إندونيسيا وطاقم السفارة هناك، بمن فيهم الملحق العسكري والملحق الصحفي والملحق الثقافي، كانوا يقومون بتحضير الأرواح بالسلّة، وشرح لقرائه في جريدة «أخبار اليوم» أيضا كيف يمكن لأي قارئ أن يقوم بذلك بسهولة في بيته، ويستحضر من يريد من الأرواح بقليل من البخور!

وقد سجل الدكتور بول غليونجي في كتاب صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في سلسلة «أعلام عربية» وصفا لجلسة تحضير أرواح قام بها بعض الأجانب، ومنهم روح عبداللطيف البغدادي، الطبيب العربي المعروف صاحب المؤلفات الطبية والتاريخية المشهورة.
وذكر بول غليونجي أن جماعة تمكنت من تحضير روح البغدادي التي ذكرت لهم أنه كان على علم باللغة اليونانية، وأن الروح أرشدتهم إلى بعض المخطوطات النادرة والمجهولة لعبداللطيف البغدادي في مكتبة مجهولة، وأخبرتهم الروح بأنها ستساعدهم في ترجمة هذا المخطوط، وبعدها بأيام وصل مترجم، هو القاضي حافظ زند، الذي تعاون مع آخرين في ترجمة المخطوط.