مصطفى فتحى يكتب: عن أنقرة والدوحة وباريس والنبى محمد
في السنوات الأخيرة باتت الأزمات بين تركيا من جهة، وبين العديد من الدول التي تعارض سياسات أنقرة الهمجية من جهة أخرى أوضح ما يكون، ومن هذه الدول فرنسا التي أعلنت بشكل واضح وخال من الدبلوماسية أحيانًا عن رفضها لنهج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فيما يخص ملفات عديدة من بينها ملف ليبيا وغاز شرق المتوسط وابتزازه للغرب عن طريق قضية اللاجئين.
وعلى عكس دول أوروبية أخرى اختارت لغة الدبلوماسية، قررت فرنسا متمثلة في الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن تتحدث بكل صراحة عن رفضها لسياسات تركيا التي تراها حمقاء ومتطرفة وانتهازية بدرجة كبيرة، وطوال الفترة الماضية لا يتوقف "أردوغان" بدوره عن وصف ماكرون بأوصاف سلبية عديدة كان أحدثها "المريض العقلي الذي يعاني موتًا دماغيًا".
وفي الفترة الأخيرة دخلت وسائل إعلام عربية مقربة من أردوغان وسياساته - ومنها فضائية الجزيرة التي تمولها قطر وهي الفضائية الأهم التي تروج لمشروع الإسلام السياسي في المنطقة - على الخط وباتت تجمل صورة أردوغان باعتباره الحاكم المسلم الذي يتعرض لحرب من قبل الغرب، واستخدمت "الجزيرة" في نهجها ذلك كل الطرق التي جعلتها تصبح "الراعي الإعلامي" الرسمي لسياسات "أردوغان" في المنطقة.
لكن في الأيام الأخيرة، أخذت تركيا وإعلام الدوحة الحرب ضد فرنسا ورئيسها إلى طريق آخر بعد تصريحات الرئيس الفرنسي التي وجدها كثيرون "مسيئة" للإسلام والنبي محمد، إذ قال "ماكرون" في حفل تأبين المعلم صمويل باتي الذي قُطِع رأسه في أحد شوارع العاصمة باريس، بسبب عرضه على تلاميذه رسومًا كاريكاتورية "مسيئة" للنبي محمد: "لن نتخلى عن الرسوم وإن تقهقر البعض".
وجدت تركيا في التصريحات فرصة كبيرة لمهاجمة الرئيس الفرنسي، وكلفت قطر قنواتها التي تمولها بشكل رسمي أو غير رسمي بشن حرب ضارية ضد الرئيس الفرنسي، من دون أن توضح للبسطاء أن باريس تحترم حرية التعبير بدرجة كبيرة وترى أن انتقاد أي شيء في الحياة، - حتى لو كان الأديان والمعتقدات - مباحًا ما دام الأمر يتم بشكل سلمي.
وعرضت وسائل إعلام تركيا وصديقتها قطر الصورة ناقصة، باعتبارها حربًا متكاملة ضد الإسلام والنبي محمد، رغم أن الصورة أكبر من ذلك بكثير وهي في الأساس تتعلق بحرية التعبير المقدسة في الغرب، وهي الحرية التي لم تجربها دولنا بأي حال من الأحوال.
وسخّرت تركيا وصديقتها قطر وسائل الإعلام في هذه الحرب بطريقة قذرة كي تبتز فرنسا وتعاقبها على موقفها الرافض لسياسات تركيا في المنطقة، بالإضافة لموقفها الرافض للإسلام الرديكالي على الأراضي الفرنسية، وكان "ماكرون" قد أعلن مؤخرًا أن بلاده ستراجع موقفها من الجمعيات الإسلامية المتطرفة ومنها الجمعيات الإخوانية في فرنسا.
لكن السؤال هنا: هل طالبت كل من تركيا وقطر أثناء حملتهما المسعورة تجاه فرنسا بقانون يرفض السخرية من الأديان والمعتقدات بأي شكل؟، الإجابة هي لا.. فقط انطلقت من الدوحة وأنقرة حملات ممنهجة تطالب بشيء آخر وهو مقاطعة المنتجات الفرنسية، والمعروفة بأنها في الأساس منتجات غالية جدًا ولا يستهلكها العرب بشكل كبير.
وتأتي حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية بعد أيام قليلة من انطلاق حملة غير مسبوقة ومؤثرة في بعض دول الخليج، تطالب بمقاطعة المنتجات التركية بسبب موقف أنقرة الداعم للإسلام السياسي، والساعي لتخريب دول عربية عديدة بحجج مختلفة.
أرادت تركيا أن تبعد الأنظار عن حملات مقاطعة منتجاتها التي أثبتت نجاحًا في السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر، إضافة إلى وضع قيود كبيرة على المنتجات القادمة من تركيا إلى المغرب.. كل هذا أصاب أنقرة ورئيسها الذي يعاني من مشاكل اقتصادية غير مسبوقة بسبب سياساته المتهورة بالجنون، فأراد مواجهة كل ذلك بدغدغة مشاعر المسلمين.
من المهم أن يدرك العرب أن ملايين المسلمين يعيشون بالفعل في سلام في فرنسا، ولا يواجه بناء المساجد على أراضيها أي منع، كما أن للمسلمين جمعيات عديدة تمارس عملها هناك بكل حرية، ومن المهم أيضًا أن يدرك العرب أن حرية التعبير في فرنسا هي مسألة حياة أو موت، وأن كل المعتقدات والأديان بما فيها اليهودية والمسيحية تتعرض لنفس النقد.
أزمة تركيا وقطر مع فرنسا لا علاقة لها بالنبي محمد على الإطلاق، بل هي أزمة سياسية في الأساس تم حشر الدين فيها بدون وجه حق، وإلا بماذا تفسرون إن الدوحة لم تبادر حتى الآن بمقاطعة فرنسا والتخلي عن تلك الاستثمارات التي تغذي الاقتصاد الفرنسي وتدعم الحكومة الحالية؟ ولماذا لم تحظر حملات مقاطعة المنتجات الفرنسية بأي اهتمام في أنقرة؟.. أم أن رسائل الكراهية في وسائل إعلام تركيا وقطر هي للتصدير فقط؟.
إذا كانت الدول الإسلامية ترفض مس نبيها بأي شكل، فيمكن محاورة فرنسا بكل هدوء وبشكل سلمي متحضر لمطالبتها بسن قوانين تمنع السخرية من الإسلام ومن نبيه محمد، فلغة الكراهية التي تتبناها بعض وسائل الإعلام العربية حاليًا مبالغ فيها ومن الممكن أن تكون نتيجتها كارثية.. هل ستشعر الجزيرة ووكالة الأناضول وباقي وسائل الإعلام الإخوانية بالسعادة إذا قتل مواطنون مسلمون مواطنين فرنسيين في شوارع الدول العربية معتبرين أنهم بذلك ينصرون الإسلام؟.. هل هذا هو المطلوب؟ أم أن المطلوب هو مقاطعة المنتجات التي يصنعها عرب في مصانع عربية، لكنها تحمل أسماء فرنسية؟.. هل الهدف هو تخريب اقتصاد دول عربية ترفض سياسات تركيا في المنطقة؟
بعض وسائل الإعلام - خصوصًا تلك التي لا تلتزم بمواثيق شرف مهنية - هي أكبر أزمة حقيقية تواجه صناعة الإعلام في عالمنا العربي، وعلينا أن نفهم أن الإسلام السياسي الذي انتقده ماكرون واعتبره خطرًا كبيرًا على بلاده، هو أكبر خطر يواجه دولنا أيضًا.
من حق أي شخص اتخاذ موقف تجاه أي قضية والمقاطعة سلاح إيجابي وفعال في قضايا عديدة، لكن الأفضل أن يحدث ذلك بعد قليل من التفكير وبعد فهم أبعاد القضية كاملة، حتى لا نصبح مجرد قطع من الأخشاب تستخدمها دول ذات سياسات مشبوهة لإشعال نيران في عالم مليء بالفعل بالمشاكل والأزمات، ولا يحتاج للمزيد من التحريض والكراهية.