مكبلات تجديد الخطاب الديني المعاصر وآفاقه
نَزعُمُ نَحنُ المسلمين أن لدينا منظومة متكاملة دعوية وأخلاقية وتشريعية واجتماعية وسياسية – (دين )- يتفوق على كل ما لدى بنو البشر من منظومات.
دعائم هذا الادعاء قائمة على ما فى أيدينا من الكتاب الحكيم المنزل من رب العالمين – وفق اعتقادنا – ومنظومة الأحاديث والمعارف النبوية الشريفة وامتدادها المنسوبة إلى آل بيت النبى سلام الله عليهم اجمعين .
بيد أن الاتساق مع النص المتعالي، أو ربطه بالماضي، او محاولة تفسير الأحداث الجارية من خلال فهمه، لا يجرى وفق اتفاق أو توافق عام، ومع تشعب المسلمين إلى فرق، ومذاهب، ومدارس، ومناهج، بعضها متوافق فى المفهوم العام، وبعضها مضطرب ، يتجدد السؤال: هل نحن على جادة الدين أم نحتاج إلى تجديد المعرفة الدينية .... وتجديد الخطاب الدينى ؟!
والحديث عن تجديد الخطاب الدينى هو حديث يشمل الإسلام "الدين" المقدس المتعالي، وهذه الأنظمة الدينية الإسلامية التي تُشكل الفكر الديني وما ينبثق عنه من خطاب ديني، هي بحد ذاتها مشكلة لا تكاد الكثير من الكتابات المعاصرة تُميز بينهما أي إسلامُ ( النموذج– المثال- القيمة )، وبين إسلام المذاهب والفرق والمفسرين أي الخطاب المذهبي والأصُولي والفقهي، وخطاب الإسلام الفكر أو ( الإيبستمولوجيا الإسلامية )، فعند الحديث عن الإصلاح والتجديد لا تجد حدا فاصلا واضحا أي الخطابين المراد إصلاحه وتجديده، الإسلام الدين وإبستمولوجيا الإسلام، أم الفكر الديني الإسلامي والخطاب الديني الناتج عن هذا الفكر وهذا لا ينفي بالمطلق وجود التميز ومن يفهمه جيدا ويؤسس له أيضا في نصوصه.
ان قضية الخطاب الديني، وما يرافقها من جدل عن الإصلاح والتجديد والحداثة والثورة، في الفكر الديني أو عليه، وهي جميعها مصطلحات ومفاهيم استخدمت في معرض الحوارات التاريخية، والتي لا زالت فاعلة الى الآن، حول الفكر الديني والخطاب الديني، تستوجب فهم ما هو الفكر والخطاب الديني، وما هو الدين، وهل هناك فرق بينهما ؟، وما هي مبررات أي دعوة للتجديد أو للإصلاح أو التغير، أو حتى الثورة في المجال الديني في العالم العربي . لذلك أقول لابد دائما من فض الاشتباك بين المصطلحات والمفاهيم، حتى تقدم المعنى المقصود منها، الى القارئ وهي محاولة من أي كاتب يخوض هذا المجال، إلي رفع ستائر الالتباس، عن مفاهيمه ومصطلحاته، كما يفهما أو يفسرها إجرائيا أو يتبناها كما هي في أي إنتاج فكري، ان كان مقالة أو دراسة أو مشروع فكري موسوعي .
والخطاب الدينى ببعديه ( المتعالي المقدس ) وإسلام المذاهب والفرق والمفسرين أي الخطاب المذهبي والأصُولي والفقهي، وخطاب الإسلام الفكر أو ( الإيبستمولوجيا الإسلامية )؛ يُعاني من عدة مُكبِّلاتٍ تحولُ دون جعله خطاباً مُنتجا للمعنى في قلب المسلم وعقله؛ ذلك أنهُ ورغم السطو العددي للدعاة والكتب الدعوية والفضاءات الدينية التقليدية والقنوات الفضائية الدينية والمواقع الإلكترونية ذات الاهتمام بـ"التوعية والدعوة" الدينيين...إلخ، فإنّ الغالب السائد في المشهد الديني اليوم إنتاجُ خطابٍ ديني مكرور يلقي بالمؤمن في غياهب أفكار وفتاوى وحكايات سرعان ما يستبينُ تهافُتُها عند أول فحص عقلانيٍّ إيماني أو غير إيماني، مثلما يستبينُ تهافتُ ذاك الخطابِ الحداثي الإقصائي النقيض الذي بدل أن ينظر في المعنى الديني لتحريره من الوضعية واللاعقلانيةِ، فإنهُ يُهدِرُ المعنى ويلقي بالمؤمن، بشكل ظاهر أو ضامر، في غياهب العدم.
في ضوء هذا الرصد التمهيدي، ثمة عثرتان بارزتان تكبِّلان، في نظرنا، الخطابَ الديني الإسلامي المعاصر، ويتحولان دونَ أن يكون هذا الخطابُ خطاباً إيمانيا وعقلانياً فعَّالا في تأطيرِ الوعي الإيمانيّ وتوجيهِ المسار الحياتي المعاصر للمؤمنين؛ دونما شعور بالتناقض، ودونما تكريس أو تغذية لانفصام مرضي فردي أو جماعي بين "معتقدات" المؤمن و"ضرورات" الممارسة الحياتية المعاصرة، انفصامٌ يحملُ نعتَ "النفاق" الذي ينهى عنه الشارع الشريف، ويعتبرُه أخطرَ مُكدِّرٍ لصفاء الإيمان؛ لأن نتائجَهُ أخطر من الخروج عن الإيمان أي من الكُفرِ البواح.
هاتان العثرتان الرئيسيتانِ اللتان تأسران الخطاب الديني الإسلامي اليوم تتمظهرانِ في قراءتين متناقضتين للنصوص الدينية المؤسِّسَة وللتراث الديني المتمحور حولها. لكل واحدة من هاتين القراءتين مأزقُها الخاص؛ الأولى "قراءة حرفية" مأزقُها الرئيسُ هو التفريطُ في التاريخيةِ؛ أي إنكارها لكل صيرورة أو تحول أو تأثير للسياقات الاجتماعية والأنثروبولوجية والسياسية والاقتصادية والمعرفية والنفسية في إنتاج الفهم؛ فيما الثانيةُ قراءةٌ نقيضةٌ مأزقُها الأساسُ الإفراطُ في الاعتقاد بتلك التاريخية وتمجيدها لتلك السياقات إلى درجة إلغاء التعالي الذي تمتاز به النصوص الدينيةُ ومن ثم إعدام الإيمان، ونسمي هذه القراءة هنا "قراءة تاريخية"؛ سواء أكانت ذات مرجعية وضعية أم ذات أفقٍ تفكيكي كما سنتبين لاحقاً.
بخلاف القراءتين، نحن ممَّن يرى أنّ ثمةَ أفقاً آخر ممكناً لضخ خطابنا الديني المعاصر بالفعاليةِ العقلانية والروحية؛ أفقاً يشق طريقه بين عدمِ نسيانِ التاريخِ ومشروطيتهِ وبينَ عدم التفريط في التمايز الروحى من خلال تجديد الإيمان وتغذيته بالمعنى، وهو الأفق المنضبط الذي نُطلق عليه "قراءة عقلانية إيمانية"؛ قراءة نرى أنّ الحاجة المعاصرة إليها أضحت اليومَ ملحةً أكثر من أي وقت مضى؛ وذلك لتحريرنا مما نعتبرهُ مآزق معاصرة لعدم الانضباط مع مفهوم النص.
من هذا المنظور، سنحاول ها هنا أن نبسطَ نوعاً من البسط - المبنيِّ على البيانِ الموجِزِ- ملامحَ القراءتين/ العثرتين، ثم الأفقَ الانضباطى الذي نقترحهُ لتحقيق التحرير المزدوج منهما.
أولاً: القراءة الحرفيةُ ومأْزقُ اللاتاريخية
العثرة الأولى الذي يُعاني منه الخطابُ الديني الإسلامي المعاصر، كما أسلفنا، تمثِّلُه القراءةُ الحرفية الظاهرية المتشددة للنصوص الدينية التأسيسية، وهي قراءةٌ تجثمُ على وجه أحادي لفهمِ الإسلام، وتعتبرُه فهماً نهائياً ومُغلقاً ومُطابقاً لمُراد الشارع، ومن ثم تَعُدُّ من الواجبِ الالتزامَ به لأنه عينُ الالتزام بالدين، وكل خروجٍ عنه هو، في اعتبارِها، خروجٌ عن الدين وانسلاخ عن ملة الإسلام. وهذه "العثرة" التى ماتزال تكبِّل الخطاب الديني الإسلامي المعاصر، تستعيدُ أسئلةً وإشكالاتٍ وأجوبةً من سياقاتٍ علميةٍ واجتماعية وتاريخية وسياسية لا صلة لها اليوم بالواقع، وتحاولُ من خلالها قراءةَ حاضرٍ مُغايرٍ له ملامحُ اختلافِهِ التَّام والكاملِ عن مختلف تلكَ الأسئلة والإشكالات والأجوبة. إنها تُعَطِّل التفكير، وتستعيرُ أصواتاً من زمنٍ مضَى وانقضَى لتُفَكِّر عِوَضاً عنَّا في قضايا تندرجُ تاريخياً وفكرياً، ضمن دائرة اللا مفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة إلى تلكَ الأصوات؛ لا لتقصير ذاتي منها، بل لأنَّ النظامَ المعرفي العام المُهيمِن والمسيطر على سياقها التاريخي والمعرفي والحضاري لم يكن يُسعف على طرح مثل هذه القضايا.
قد يَعترضُ معترِض أنّ تلكَ الأصوات لم تكن تنطِقُ بآرائها، بل بأحكام الله تعالى في الأسئلةِ والقضايا المطروحة، وهي أحكام لا يجري عليها التبديلُ أو التغيير؛ إذ "لا تبديلَ لكلمات الله" (يونس، الآية 64)، قال تعالى أيضا:"وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا"(الكهف، الآية 27)؛ وقال سبحانه:"وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الأنعام، الآية 115).
هذا هو الاعتراض الذي ترفعه القراءةُ الحرفيةُ، وفيه يكمنُ الداءُ العُضَالُ في تعاملها مع النصوص المُنْزَلَة، داءُ المُمَاهاةِ بين الفهمِ والنصِّ، بين القراءةِ والمقروءِ، بين الإدراكِ البشري النسبي المُتغيِّرِ وبين الكلمةِ الإلهية المتعالية الخالدة؛ فبدلَ أن تُدرِكَ أنّ الاختلافَ بشريٌّ كما اقتضت سنةُ اللهِ تعالى في خلقهِ، بما في ذلكَ الاختلافُ في الفهمِ، تُصنِّفُ هذه القراءةُ كلَّ مختلِفٍ في خانةِ الزيغِ والضلالِ، وتُنصِّبُ نفسها في مركزِ إصدار الحقيقةِ الإلهية؛ بينما ظلَّ كثير من أفذاذِ علمائنا القدامى يعتبرون ما يذهبون إليه مجرد اجتهادٍ يُؤخذ منه ويُردُّ، إيماناً منهم بتفاوتِ أهل الذكر في المدارك وتعرضِ البشر للزلل.
المنحى نفسه ستُعمِّقهُ المعارفُ الحديثةُ حينَ ستذهب أبعد من ذلك في التأكيدِ على أن الاختلافَ في الفهم ضرورةٌ لغوية ومعرفية وثقافية، لتعلِّمنا كيف ننظر إلى نتاج أولئك العلماءِ نظرةً تاريخية تصلُ فكرَهم بسياقهم التاريخي ومنهجهم المعرفي وبالمُسبقات الحاكمة لفهمِهم، والتي تؤثِّرُ في إدراكهم بوعي وبغير وعى وهذا خلافا لاركون.
وهذا يعني أن بعضَ القدماء أدركوا بحسِّهم الأخلاقي وحدسهم المعرفي نسبيةَ آرائهم؛ فيما أكدتْ تلك العلوم الإنسانيةُ الحديثةُ بالحجة والدليل العلميين، بل وذهبت إلى القولِ باستحالةِ إنتاج فهمٍ مُطابقٍ، بشكل مطلقٍ، لمعان ومقاصد تخصّ نصًّا يتموضعُ مُتلقيهِ في شروطٍ مغايرة لشروط إنتاجهِ أو تلقيه أول مرةٍ.
لقد صارَ هذا الوعيُ المعرفيُّ الحديث بتاريخية القراءة يُؤَزِّمُ القراءةَ الحرفيةَ للوحيِ ويكشِفُ عوراتِها المعرفيةَ، فيما سِرُّ الوحيِ كامنٌ في موضِعٍ لا تُدركهُ القراءةُ الحرفيةُ المذكورةُ، إنهُ كامنٌ في قدرة الوحي أن يُخاطِبَ كلَّ الناسِ دونَ أن يُلغيَ سياقَ مُخاطَبيهِ المبَاشِرينَ في زمنِ النبوة؛ وزمن الأئمة سلام لله عليهم؛ ذلك أنّ عَظَمةَ التنزيلِ أن يتواصلَ مع التاريخِ دون أن يحتكِرهُ فهمٌ تاريخي معلوم. فمثلمَا وجدَ أجدادُنا في الوحيِ رُواءً لأسئلتهم، فإنَّ الوحي قادرٌ على الإجابة على أسئلتنا المُغايرةِ تاريخيا لتلك التي طرحها أجدادنا؛ أسئلةٍ نابعةٍ من صميمِ حياتنا المعاصرةِ كما هو شأن أسئلة الحقوق الإنسانيةِ والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالمجتمع الحديث، وكذا أسئلة التواصل ورهاناتهِ، وأسئلة المواثيق الأممية الخاصة بالسياسة الدولية والتبادل التجاري والإعلام والبيئة والرياضة وحقوق التأليف وبراءة الاختراع، وأسئلة الفن والإبداع، وتلك المتصلة بالبحوث العلمية المختلفة في الطب والفيزياء والبيولوجيا وعلم الجينات وغيرها؛ والتي يؤثر تطور البحث فيها في تمثّلنا لمفاهيم الأسرة والزواج والبنوة والأبوة والهوية الجنسية للأفراد وغيرها، فضلاً عما تطرحه كشوفات تلك البحوث من إشكالات أخلاقية تتعلق بمنظومات القيم بوجه عام والمنظومات القيمية الدينية بشكل خاص. قضايا وإشكالات نرى أن الوحيَ لا محالةَ قادرٌ على أن يُمِدَّنا بما يضيء تعاطينا معها بشرطِ أن نُجدد "الفهم" لنجددَ تلقينا للوحيِ، ولنبلغَ من الأعماقِ ما فاتَ الأجدادَ، لا لتقصيرٍ منهم في البذلِ كما قلنا، بل لغياب شروط إمكان السؤال الذي نطرحه اليوم ولمحدوديةِ المعارف المتعلقة بالشروط نفسِها.
وحتى نقف عند نموذج لتجدد التلقي المذكورِ والذي يكشفُ مأزقَ القراءةِ الحرفيةِ، يكفِي مثلا أن نتأمل كيف تلقى علماؤنا القدامى مفهوم "العالَم" في تعاملهم مع الوحي. فقد كان مفهوم "العالَم" بالنسبة إلى علماء عظماء من ثقافتنا الإسلامية إلى حدود القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي؛ كان محدوداً بحدود الوعي الجغرافي الوسيط وبالمخيال الجغرافي لأجدادنا الممتد بين الصين و"بحر الظلمات". لكن هذا المفهوم سيعرف صيرورةَ إدراكٍ مُغايرة لمختلف التطورات التي ستُسفر عنها الاكتشافاتُ الجغرافيةُ والثوراتُ الصناعية والتجارية والعلمية والتكنولوجية اللاحقة، والتي ستنعكس على إدراكنا لمفهوم "العالم"، ومن ثم سيصيرُ مَعيبا، عقلا وإيماناً، أن نستعيرَ فهمَ أجدادنا لمفهوم "العالَم" قبلَ تلك الاكتشافات والثورات لنُجيب به على الإشكالاتِ التي يطرحها فهمُنا اليوم لـ"العالم" أفقًا كوكبيّا تواصليّا منفتحا أو للإسلام اليوم بوصفه دينًا عالميّا.
معنى هذا أنّه لا يمكن أن نفهم، مثلاً، عالمية الرحمة المحمدية اليومَ بحدود فهمِ أجدادنا للعالميةِ، والذي كان أسيرَ محدوديَّة إدراكهم لمفهوم "العالم" في العصر الوسيط. لذا يُخطئ، أيما خطأ، من يستعيرُ حديث أجدادنا عن "العالمية" ليدلِّل على انفتاح ثقافتنا الإسلامية اليومَ على "العالمية"، فـ"عالميةُ" الرسالة المحمديةِ متجددةٌ بتجدد مفهوم العالم؛ ذلك أنّ لهذا المفهومِ نفسِه تاريخاً، وهو كذلك مفهومٌ صائر ما يفتأ يتحول، ولا يمكن أخذه في إطلاقه بعيدا عن الإحداثيات المكانية والزمانية والمعرفية المؤطرة له، وإلا سنقع فيما يسمى اليوم بـ"المغالطة التاريخية"؛ أي إسقاط السابق على اللاحق أو محاكمة السابق باللاحق بما لا يتلاءم ومساقَه الخاص وسياقه التاريخي.
إنّ الكلمةَ الإلهيةَ دوماً متعاليةٌ، لكنّ فهمهَا تاريخيٌّ مُتجددٌ بتجددِ الأطرِ المعرفية والاجتماعية للفهم، وأيُّ مغالطةٍ تَلحق الإدراكَ فمردُّها إلى الفهم لا إلى النص، وتعليلُها في القراءةِ لا في المقروء.
يقتضي، إذن، تَجديدُ تلقي الوحيِ الوعيَ بتعالي هذا الأخيرِ في روحِه وبصيرورة أشكالِ فهمه وتاريخيتها، وكل تلقٍّ يفتقد هذا الوعيَ سيقع في أزمة تُشَوِّشُ على فهمه للوحي. وأزمة القراءة الحرفية أنّها قراءةٌ لا تاريخية؛ أي أنّها لا تُدرك أنّ أشكال فهم الوحي تاريخيةٌ صائرة لارتباطها ببشرية الفهم وبسياقه وأدواته، وهو ما يجعلها تَجْمُدُ على تحيين وتنزيل تاريخي محدد للتعالي، فتعتبرُ ذاك التنزيلَ أو التحيينَ متعالياً في ذاته. "اللا تاريخية"، إذن، هي أبرزُ مظهر من مظاهرِ الأزمة التي تورطُنا فيها القراءةُ الحرفيةُ بما هي مدار الاعتقالِ الأول الذي يُكبلُ خطابَنا الإسلامي المعاصر.
على أن تغييبَ التاريخيةِ في القراءة الحرفيةِ هو أيضا تغييب لـ "النقد"، ومن ثم إضفاء لأردية القداسة على كثير من مُنتَجَات الفكر البشري النسبي، وهذا ما يجعل الخطابَ الديني المعاصر مُكَبَّلا إلى اجتهادات فقهية وتفسيرية بشرية تاريخية نسبية، ما تفتأ تأسرهُ لكونها تتقدم بوصفها فهمًا مطابقا لحقيقة النصِّ الديني المتعالية كما شرحنا؛ فهمًا يصبح معه كل نقد ممجوجا ومنكرا من القول لكونه يُعَد نقدا للدين ذاته ولمتعالياته.
لقد ظلت لا تاريخيةُ القراءة الحرفية مصدرَ المماهاة بين فهم بشري معين وبين حقيقة النص الإلهي، وهو ما جعلها تُسَوِّغ إقصاء كل فهم مختلف للدين، بل كانت تلك المماهاة، وما تزال، خلفَ إراقة دماء، وتخريب عمرانٍ، وكتم أصوات، وإبادةِ تيارات فكرية، خصوصاً منذ اللحظات التاريخية للتنكر للوصية، والتي صار فيها الدين آخِرَ ملجأ لحماية الكيان السياسي للأمة. غير أنّ تحولاتِ العصور الحديثة واضطرارَ المسلمين للتفاعل مع الحداثة ورهاناتها، ورغبة كثير منهم في تجاوز أحوالِ التأخر التاريخي والتخلفِ الحضاري اللذين يطوقان واقع المسلمين، جعلَ القراءة الحرفيةَ تتعرضُ للتفكيك والنقد، بل أفرز أصواتا تركبُ مسارا نقيضا للقراءة الحرفية، ذهب بعضها إلى حدِّ متطرف أوقع الخطاب الديني الإسلامي المعاصر في مأزقٍ ثانٍ وعثرة آخر.