"طبيب الدنمارك".. المجنون الذى دخل السجن بسبب شقيقه عضو "الجهاد"
احترامًا لقريبة أحد رؤساء التحرير الحاليين فى صحيفة مستقلة، فلن أذكر اسمه، لكن قصته من المهم ذكرها، فرغم فقده نصف عقله، إلا أن تأثيره علىّ كان كبيرًا.. فجأة أدخلوه علينا، فألقى حاجاته، وقفز ليلعب طابورًا رياضيًا قبل أن نتعرف عليه، ولما تعب قعد، ثم قام فلعب مرة أخرى، وهكذا دواليك، حتى قام أحد من جاءوا معه طبطب على ظهره ودعاه للجلوس، ثم أشار لنا قائلًا:
"اعذروه هو تعبان شوية".
إنه الطبيب البيطرى "أ. ف"، كان عائدًا من الدنمارك فاستوقفوه بالمطار لأن شقيقه عضو جماعة الجهاد كان فى أفغانستان، وما زال هاربًا، وبعد التحقيق معه اكتشفوا تورطه فى الاتصالات معه، فصدر قرار باعتقاله.
فى منتصف الليل ونحن غرقى فى النوم، نفيق على صوت ضرباته على صخر الزنزانة الصلب، حتى إن بعضنا كان لا يستطيع النوم بعدها مطلقًا، وأنا أحدهم، وحين سألته فى الصباح لماذا تضرب الأرض بكلتا يديك؟
أجابنى ببرود:
"لكى أقتل الجراثيم التى تخرج من أجسادكم.. أنا أرى أجسادكم والأمراض والجراثيم وهى تخرج منها".
كنت أتعامل معه على أنه فاقد للعقل تمامًا، وأتجنب الحديث معه، كما أبتعد عنه قدر المستطاع، فهو يرفض الاستحمام، إلا أن هناك من تكفل به وكان يساعده فى تنظيف نفسه، وهو الراحل "هانى الدواليبى"، الذى توفى بمرض بالقلب فيما بعد.
كان أهل "أ. ف" يعرفون المرض الذى ألمّ بابنهم، فكانوا يزورونه أسبوعيًا، ويحضرون له ملابس تكفيه طوال الأسبوع، حتى إذا جاء الأسبوع الذى يليه أحضروا له غير القديمة، التى يأخذها من فى الزنزانة بعد غسلها مما علق بها من الدم والصديد والأوساخ!.
كانت أول مرة أجلس وأطيل الحكى معه، حين رأيته من بعيد يبكى، فدنوت منه قائلًا:
"يا دكتور اصبر شوية".
رد قائلًا: "أنا كنت أريد أن أخوض التجربة بمصر، لكن معرفش إنها هتكون مريرة بالشكل ده".
"تجربة إيه؟.. إنت كنت جاى تفجر مين فى البلد؟!".
جاوبنى بصمت مطبق، واكتشفت بعد أن تعود على الكلام معى أن هذا الشاب عاش فى ألمانيا والدنمارك وطاف على الدول الإسكندنافية.. هو الذى حكى ذلك، وحكى لى عن اللغات التى يُتقنها، وعن الجماعات الإسلامية فى أوروبا، وعن النقاش الذى دار بين حزب التحرير الإسلامى المنتشر فى القارة العجوز، والدكتور عمر عبدالرحمن، وذلك فى الدنمارك، حيث قال لى:
"إن حزب التحرير أثار مسألة المعاصرة والأصالة، وأثاروا إشكالات كثيرة، لم يفلح الدكتور عمر فى الرد عليها".
عملنا له حلقة فجلس فى منتصفها، وأخذ يحلل الشخصيات التى أمامه، وساعتها اكتشفنا مدى عبقريته والعلوم التى قرأها، وأذكر أنه حين وصل إلىّ قال لى بكل ثقة:
"إنت من أحفاد الهكسوس، أصحاب الجبهة العريضة والأنف المدببة.. وأنت مثل زوج أختى الصحفى مثقف، وستصبح صحفيًا مشهورًا".
يوما بعد يوم اقتربت منه، وكان هو يجعلنى أعيش على الأمل، وهو الشىء الوحيد الذى يجعلنى أعيش ولا أموت.
فى يوم من الأيام سمعنا صوت التكبيرات، ثم الهتاف، وجملة "يا أقدار الله ننتظر منك المزيد"، والمقصود منها ننتظر منك المزيد من مقتل رجال الشرطة، وكنا حين نسمع هذه الهتافات ندرك أن حادث قتل لرجال الشرطة قد وقع، ثم تلا أحدهم على مسامعنا خبر قتل خفير نظامى فى بلدنا.
"أ. ف" قال: "بهائم.. الحبسة طويلة جدًا طول ما البهائم بتهتف فى السجون".
عاقبوا السجناء بأخذ الملابس، وبالتفتيش على الزنازين، ومضت ساعة، حتى سمعنا صوت انتباه.. وضعنا وجوهنا ناحية الجدار، ولما أغلقوا الباب وجدنا كومة من بدل الكتان الردىء المخصص للسجناء السياسيين.. الكل ألقى بنفسه على البدل يخطف قبل الآخر بلا نظام.. فجاءنى الدكتور قائلًا لى:
"الأمير بتاعكم خطف البدلة منى ولبسها هو ده يرضيك؟!".
يوم بعد يوم بدأ "أ. ف" يثير المشكلات، فلا هم يتعودون نقده لهم، ولا هم يستطيعون الصبر على حالته النفسية المرضية، حتى جاء يوم وقعت مشكلة بينه وبين معتقل من أسيوط، وتدخلت لمحاولة الحل لكننى فشلت، وفى الصباح قاموا بترحيلى للمنيا، ولما عدت عرفت أنه أبلغ والده فى الزيارة بأنهم اعتدوا عليه، فقام بدوره بإبلاغ رئيس المباحث، الذى جاء وقام بوضع 4 منهم بعنابر التأديب، وهى زنازين انفرادية، ثم تم تفريق الباقين على الغرف الأخرى.
بعد عودتى مرة أخرى للسجن قابلته، وسألته عن أحواله، وأحوال من معه، فقال لى:
"هؤلاء لا يفهمون.. وأمامهم 100 سنة حتى يصبحوا حميرا".
فرقتنا السنون، وحين أصبحت صحفيًا كما تنبأ لى، ذهبت لقريبه وسألته عنه، فأخبرنى بأنهم زوجوه، وأنه الآن بخير كبير.