رجال في الزنزانة.. أسامة جغرافيا (الحلقة الأولى)
الزنزانة قاحلة جرداء منزوعة من كل شىء اللهم إلا أربعة جدران صخرية.. وحين تجد نفسك وأنت محشور بين صخورها، ودموع الليل تنضح وجهك بالنار، لن تنسى أبدًا من كانوا حولك.. كلماتهم.. ضحكاتهم.. غلالات الحقد والغضب التى كانت تخرج من بعضهم.. الأمل المأمول الذى كانوا يتحدثون عنه، لذا ستثب بعيدًا، ولا تدون فقط ما دار بينك وبينهم، لكنك تبنى تصورات فاعلة بديلة تتخطى تلك الأخطاء المقيتة الساذجة، وتخرج من مفهوم الزنزانة المهيمن على نفسك، وتستعيد حريتك، وتهرب من ماضيك الأليم، وساعتها ستصبح حياتك المتناقضة خطًا واحدًا وليس اثنين، لذا كانت هذه الحلقات، التى أعكس فيها بمرايا مصغرة، صورة الرجال حولى فى تاريخى القديم، الذى لم يكن ساعتها قد انتهى بعد.
لم أكن أعرفه، لكن حين سجنت فى عام ٨٦، حدثونى عنه كثيرًا، وحين التقيته فى عام ٩٧، اكتشفت بالفعل أنه أسطورة حقيقية كما كانوا ينعتونه، إنه أسامة حميد، عالم الجغرافيا السياسية، الشهير بـ(أسامة جغرافيا)، الحاصل على الدكتوراه فى الجغرافيا السياسية، وأكثر من ١٠ شهادات أخرى، من جامعات ومعاهد مختلفة، بعضها كان بالجزائر، التى عاش فيها مع والده، أستاذ الجامعة، وأيضًا فى الجغرافيا السياسية.
يتقن «جغرافيا» ٣ لغات على الأقل، وكان يعطى دروسًا لطلاب الثانوية المسجونين فى اللغة، وكذلك فى النحو والصرف، الذى كان يسمعه لهم من كتاب شذور الذهب، أو قطر الندى، فهو يحفظهما عن ظهر قلب.
أسامة جغرافيا، سجن فى عام ٨١، وكان أحد المتهمين فى قضية تنظيم الجهاد، وقتل الرئيس الأسبق، أنور السادات، لكنه حكم عليه بالبراءة، وهذا ما ذكره لى، حين سألته، كيف تورط فى مثل هذه القضايا؟، وحكى كيف تأثر بالثورة الإيرانية، وكيف رأى أنه لا بد وأن تحدث ثورة شعبية بمصر، وأنه فى قفص المحاكمة الأخيرة، قال لعبود الزمر ماذا سنفعل عقب الإفراج عنا؟، فرد عليه: افعلوا أى شىء تقدرون عليه، مشيرًا إلى أن الرجل، الذى كان رمزًا جهاديًا، شخص عشوائى، لا خطة لديه، ودفع العناصر المفرج عنهم للسير بعشوائية ودون تفكير، فورطهم.
أول مرة التقيت حميد حين اختلفت جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية، حول إعداد نشرة الأخبار، التى تقال فى عنبر استقبال طرة (ب) وحدثت المعارك، فالجماعة ترى أن أى عملية حتى لو قتل خفير، هى جهادية، وترى جماعة الجهاد أنها عملية مسلحة، وتصر الأولى على كتابة، جملة يا أقدار الله ننتظر منك المزيد فى نهاية النشرة، والآخرون يرفضون، ولكى تحل المشكلة اختارونى واختاروا أسامة لأننا نفهم فى السياسة لنعد هذه النشرة.
بدأت صداقة بيننا من يومها فرقتها السجون حتى التقينا فى عنبر ٨، كان يدفع للحرّاس الفلوس كي ياتي ويقابلني، ويقول لي أنت الوحيد المعتقل السياسي، أما الباقون فعلى وزير الداخلية أن يفرج عنهم فوراً، فهم لا يفهمون.
أقمت له حفلاً لأنه حصل على رسالة دكتوراه من داخل السجون فى هذه الفترة الصعبة.. كان موضوع رسالته فى الجغرافيا السياسية هو (القلب الحيوى لمصر) وناقشه داخل السجن الدكتورة دولت إبراهيم، والدكتور صلاح الشامى.
كان يرى فى رسالة الدكتوراه، أن هناك قلبا حيويا لمصر لو ضرب فإنه سيؤثر على وجود الدولة، ورسالته تناقش جغرافيًا هذه المسألة، وكتبت عنه الدكتورة دولت فى صحيفة الأهرام مقالا بعنوان (المعتقل السياسى الوحيد بمصر).
أسامة حميد أو جغرافيا كما يسمونه لا يعجبه حال عناصر هذه الجماعات كثيرًا، ولا مشاكلهم، وكان يقول هؤلاء ليسوا معتقلين سياسيين أبدًا، ولو عرف وزير الداخلية بهم لأفرج عنهم فعلًا.
كان يرفض أن يتصل بأحد من الرفاق سواى داخل العنبر وحين سنحت الفرصة للالتقاء عن طريق أحد الشاويشية بات معى فى غرفتى وهمس لى: أنت الوحيد الذى تفهم بين هؤلاء، وعاوزين نتكلم سوا فى حاجة مفيدة، وأنا أكره أناشيدهم، وحفلاتهم.
قلت له: أمير الزنزانة الأستاذ حاتم الضوى، سيرفض ذلك وأكيد هيعرض عليك شعره وأناشيده.
وأحببت أن أدفعه بعيدًا فقلت له: كم شهادة حصلت عليها؟
رد: كتير كلية علوم.. آداب قسم جغرافيا سياسية.. حقوق.. ماجستير.. إلخ.
- ليه مكملتش فى كلية العلوم؟!
- كنت هبقى فاشل زى حضرتك، هاهاهاها.
ضحكنا معًا ثم بدأنا الحديث الهام حول التاريخ وأنه لا يمكن الانطلاق فى فترة والإلمام بها إلا بمدى ارتباطها بالفترات السابقة، وتاريخ مصر لا يمكن فصله عن مجمل التاريخ، ونقطة البداية فى دراسة التاريخ هى تحديد التفسير التاريخى، وأننا سنرى فى جميع المذاهب المادية أنه صراع بين الأغنياء للسيطرة على وسائل الإنتاج، وهذا هو التناقض الرئيسى بين الأغنياء والفقراء.. أما الاختلاف الثانوى فهو الاختلاف الدينى، ويعتقد أتباع هذا المذهب أنه من الخيانة أن نستدرج من صراع رئيسى إلى صراع ثانوى.
وبالطبع تكلمنا عن التفسير الإسلاموى، الذى هو صراع بين الحق والباطل، فى شكله العملى أو صراع فى شكل حضارة، أى أنه يؤمن بصراع الحضارات، التى هى فكر المجتمع وشكل العلاقات الداخلية وإنتاج المجتمع المادى وغيرها من أنماط العمارة والفنون، فقال لى: لما كان كل مولود يولد على الفطرة فإن قوى الباطل صنعت حضارات تضمن إخراج هذا المولود عن فطرته، وبالطبع فإن الأسرة هى أضيق علامات البناء الاجتماعى التى ينشأ فيها الفرد، وحين تستكمل عملية التخريب، فإنها ستكون من خلال التنشئة الاجتماعية وأهمها النظام التعليمى، لكن الفطرة لا يمكن القضاء عليها قال تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح) الآية، فلا بد من إزالة العوائق بين الإنسان وفطرته. وتحدثنا معًا عن أشكال الصراع داخل التاريخ بين الحق والباطل.
- الصراع فى شكله القومى، حيث كان الرسول يرسل إلى قومه ولم تكن الجماعة مكلفة بالقتال، وكان عقاب الله ينزل بالمكذبين.
- الصراع فى شكل قومى ولكن وجدت جماعة، وهى حالة وحيدة فى تجربة بنى إسرائيل المليئة بالانحرافات وهى صورة مصغرة الآن.
- الصراع فى مرحلة العالمية، وانبثق من هذا الصراع نوعان من الصراع الثانوى، الأول صراع بين قوى الباطل، التى استمدت قوتها من ضعف المسلمين، وثانيًا صراع داخل المعسكر الإسلامى حول من هو الأقرب للحق، وأولى الطائفتين، وهذا نشأ بالطبع مع أول انحراف عن التطبيق المثالى.
عن تحليل الحضارات قال حميد:
الحضارة مثل الإنسان تمر بمراحل:
١- جيل فريد يعطيها قوة، ويكون مصدر الربح فى هذه الحضارة مزيجًا من القوى الإيمانية والعقلية فيلتقى الإيمان والفكرة.
٢- خلو الإيمان من الفكرة وبقاء قوة العقل وهى عصر التأصيل والتدوين فى منتصف القرن الثانى الهجرى.
٣- المرحلة الثالثة تفقد الحضارة الرصيد العقلى وتلجأ إلى التقليد والحواشى وهنا يوصف المجتمع بأنه مجتمع متخلف حضاريًا وتنهار الحضارة مع أول صدام دون مقاومة تذكر، ويعتبر مالك بن نبى أن سقوط غرناطة حدث رمزى فى التاريخ يعبر عن العالم الإسلامى الذى أصبحت له قابلية للاستعمار، لأن ميزان القوى الحضارية غير متكافئ.
كان الرفاق فى هذا الوقت داخل الزنزانة قد بدأوا يعرضون حفلتهم وأناشيدهم، وبدأ من خلف الستار أراجوز يتحرك صنعه أحد إخواننا الصعايدة ليقوم بمسلسل فكاهى، قلت له يا دكتور:
- سيبنا من اللى بيعملوه الإخوة وقل لى إيه رأيك بصراحة فى الجماعات الإسلامية؟
- عاوز رأيى بص للأراجوز وإنت تعرف.. بهايم وأراجوزات.
لم يتزوج أسامة حميد، ومات أبوه وهو بالسجن، كما توفيت والدته، وكان شقيقه أستاذ الجامعة يزوره كثيرًا، وأخته أيضًا أستاذة الجامعة تزوره، ولما خرج، عاد للتدريس فى السلك الجامعى، وانعزل تمامًا، وأصر على عدم الزواج، والاعتكاف على مؤلفاته، فى الجغرافيا السياسية، التى أعتقد أنها ستكون إضافة للمكتبة العربية.