رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيطان يكمن في التفاصيل الأمريكية

كلما تحدث الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن السلام في بلاده، ورغبته في الحوار مع نظيره الروسي، فلاديمبر بوتين، حقناً لمزيد من الدماء، وسعياً للسلام بين الدولتين الجارتين، يسعى الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لتحريض الأوكران على الاستمرار في مواجهتهم للجيش الروسي، حتى ولو كان ثمن ذلك باهظاً، في عدد القتلى وتدمير البنية التحتية في أوكرانيا، وانهيار اقتصادها، وتشريد ما قد يصل، يوماً، إلى نحو عشرة ملايين أوكراني، في الدول المجاورة.. قال بايدن، إن بلاده تمد الجيش الأوكراني بمنظومات للدفاع وصواريخ مضادة للطائرات والمدرعات، ضمن حزمة مساعدات أمريكا لأوكرانيا من أجل تقويتها في حربها الجارية الآن مع روسيا، وتوعد الرئيس الأمريكي روسيا بتحمل عواقب وخيمة تشل اقتصادها، (إن الرئيس الروسي يدفع ثمن غزو أوكرانيا، وواشنطن تشل اقتصاد روسيا.. إن بلادي والحلفاء، يواصلون إضعاف بوتين وتقوية أوكرانيا في الميدان، وعلى طاولة المفاوضات.. نمد الجيش الأوكراني بمنظومات للدفاع الجوي وصواريخ مضادة للطائرات، ونواصل إرسال مساعدات عسكرية لأوكرانيا للتصدي للهجوم الروسي.. الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا ساعدها بالفعل، في إحداث خسائر فادحة في القوات الروسية).. فهل يفعل بايدن ذلك من أجل عيون أوكرنيا؟.
أكد خبراء في السياسة الدولية، أن أمريكا وبعض الدول الأوروبية، استفزت روسيا لخوض حربها ضد أوكرانيا، في الوقت الذي تخلت فيه عن كييف، وقد ساهمت أوكرانيا في استفزاز الموقف الروسي، مع أن الجميع كان معارضاً لانضمام أوكرانيا للناتو، واقتراب الأسلحة الغربية من حدودها.. ولم يجتمع مجلس الأمن قبل الأزمة لاحتوائها قبل وقوعها، ولم يتجول السكرتير العام للأمم المتحدة بين العواصم المختلفة، للحيولة دون وقوع الهجوم، في الوقت الذي تقاعست فيه الولايات المتحدة الأمريكية عن التدخل لعدم تعرض أوكرانيا للحرب.
تستهدف أمريكا تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، من استفزاز روسيا لدفعها لشن الحرب على أوكرانيا، لمنع  الناتو من الاقتراب من حدودها.. أول هذه الأهداف، توتير الأجواء وإثارة العداء بين أوروبا وبين روسيا، لمنع مزيد من تشابك المصالح الاقتصادية المشتركة، بين دول القارة الأوروبية وبين الدب الروسي، الذي أصبح المصدر الرئيسي للطاقة الأوروبية.. ثانيا: خنق الاقتصاد الروسي، لمنع بوتين، من تحويل روسيا لنمر اقتصادي، يدعم العضلات العسكرية والنووية الهائلة التي تمتلكها بلاده، بعضلات إقتصادية وتكنولوجية.. وأخيراً: استكمال تحقيق المكاسب المادية الهائلة، من خلال زعزعة إستقرار العالم، لصالح اللوبيات، خاصة لوبي البترول، في الوقت الحالي، بعد المكاسب الرهيبة التي حققها لوبي الدواء، نتيجة فيروس كورونا ومتحوراته.. ومن أجل هذا، توحد الصوت داخل الكونجرس الأمريكي مع القيادة في البيت الأبيض، ومعهما سيلاً من وسائل الإعلام المؤيدة لضرورة القضاء على روسيا، في الأراضي الأوكرانية، قبل أن يتوحش الدب الروسي.
إستثناءً من كل هؤلاء جميعاً، اتخذ جون دانيال ديفيدسون، الكاتب المتخصص في صحيفةFOREIGN POLICY موقفاً مغايراً، وحذر الجميع من مغبة المضي في هذا الطريق.. أكد أن هناك تحولاً في واشنطن، ولم يعد الحديث عن العقوبات المفروضة على موسكو، بل عن أفضل السبل لتصعيد التدخل الأمريكي في الحرب.. في اليوم التالي لمخاطبة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام الكونجرس، كانت الصحافة الأميركية مليئة بالحديث عن شجاعته وقيادته، ووضوح هدفه وتصميمه الراسخ في مواجهة الخطر المميت.. لكن هناك شيئ آخر وراء هذا الاحتفال بزيلينسكي.. فقد كان خطابه، بعد كل شيئ، طلباً مباشراً إلى حد ما للولايات المتحدة وحلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي للتدخل نيابة عن أوكرانيا.. قال: (في أحلك الأوقات لبلدنا، لأوروبا بأكملها، أدعوكم إلى بذل المزيد من الجهد)، ولم يقصد زيلينسكي بأن يكون الجهد عسكرياً فقط، بل قال، موجهاً كلامه لبايدن: (كونك زعيماً للعالم يعني أن تكون قائداً للسلام.. السلام في بلدك لم يعد يعتمد عليك فقط وعلى شعبك، بل يعتمد على أولئك الذين بجانبك).
لقد تراجع قليلاً عن نداءاته المتكررة لحلف الناتو، لفرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا، وبدلاً من ذلك ضغط من أجل الطائرات المقاتلة وأنظمة صواريخ أرض ـ جو بعيدة المدى، وهي مساعدات عسكرية من النوع الذي سيكون غير مسبوق، ويمكن القول إنه سيجلب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى خط الحرب وربما يجعلهم يقفون فوقه.. وهنا، لا يمكن لوم زيلينسكي، إنه يحاول إنقاذ شعبه، الذي يعيش في ضائقة يائسة. لكن قادتنا يتحملون مسئولية عدم الانجرار إلى الصراع، مهما كان ذلك مواتياً في البيئة الإعلامية الحالية.. وبدلاً من ذلك، فإننا نرى العكس تماما: ظهور إجماع مؤسسي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن، على أنه يجب على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، زيادة المساعدات العسكرية لأوكرانيا، في الوقت الحالي، دون حتى محاولة صياغة استراتيجية شاملة، أو ما قد تكون عليه المآلات، أو كيف قد تبدو الدولة النهائية في الصراع.
في نفس اليوم الذي ألقى فيه زيلينسكي خطابه، أعلن الرئيس بايدن عن دفعة جديدة بقيمة ثمانمائة مليون دولار، من الأسلحة المضادة للطائرات وغيرها من المعدات العسكرية لأوكرانيا.. هذه شريحة صغيرة من المساعدات الأمنية لأوكرانيا البالغة أربعة عشر مليار دولار، والتي أقرها الكونجرس مؤخراً، في لحظة نادرة من الحزبين، أن يجتمعا على قرار موحد.. وذهب زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب، الديمقراطي ستيني هوير، إلى أبعد من ذلك خلال جلسة استماع للجنة القواعد، قال (نحن في حالة حرب)، في إشارة إلى الحاجة إلى رد أمريكي موحد على الصراع.. وربما أدرك زلته بعد ذلك، وسرعان ما أوضح (أننا لسنا جسدياً في ساحة المعركة مع الأوكرانيين، ولكن يجب أن نفعل كل ما في وسعنا، للتأكد من أنهم يستطيعون مواجهة هذا العدو وهزيمته).
يستطرد جون دانيال ديفيدسون، في مقاله، (يرى هؤلاء المشرعون أنه يمكننا الرقص على خط من العدوانية، دون أن نصبح في الواقع متحاربين في الحرب، كما لو أننا وحدنا من يقرر أين يوجد هذا الخط، ومتى نكون قد تجاوزناه أو لم نتجاوزه.. إنهم، إلى جانب مشجعيهم في الصحافة الخاصة، لا يقدمون أي حجج جوهرية، حول سبب عدم انجرارنا إلى الحرب.. إنهم يعلنون ببساطة أنه يتعين علينا بذل المزيد من الجهد، وأنه لا يمكننا أن نخاف من موسكو، دون حتى محاولة إقناع الجمهور الأمريكي المتشكك، بأن الخطر الكامن في بذل المزيد من الجهد ـالدخول في حرب إطلاق نار مع روسيا ـ يستحق كل هذا العناء.. إنهم لا يعترفون حتى بالمخاطر.. إذا كان السياسيون الغربيون قلقين بشأن ما قد يحدث إذا فازت روسيا، فيتعين عليهم أن يفكروا فيما قد يحدث إذا بدأت روسيا في الخسارة، وما قد يفعله الرئيس الروسي، إذا اعتقد أن أهدافه الحربية تخرج من بين يديه، أو أن نظامه في خطر).
الولايات المتحدة تسير الآن، بلا تفكير، نحو التصعيد، حتى لو لم يكن هذا ما ينوي الرئيس بايدن القيام به، لكن كبار المشرعين في كلا الحزبين، جنباً إلى جنب مع الكثير من الصحافة الخاصة يقودون بايدن من أنفه.. يمكن للقادة الغربيين أن يشيدوا بشجاعة زيلينسكي وشعبه، لكنهم بحاجة أيضاً إلى أن يكونوا صادقين معهم.. لا ينبغي لواشنطن أن تفترض أن بوتين سينسحب ببساطة من هذه الحرب، أو أنه سيقبل هزيمة تدريجية، من خلال توفير أسلحة الناتو والمساعدات العسكرية لأوكرانيا.. يجب أن يكون الافتراض عكس ذلك تماماً: أن بوتين سوف يوسع الحرب إذا اعتقد أنه يخسرها.. في الوقت الحالي، يقول جون دانيال ديفيدسون، نحن بحاجة إلى أن يكون قادتنا واقعيين، مما يعني الاعتراف بأنه في هذه المرحلة، لا يوجد في الواقع سوى مسارين للعمل متاحين للولايات المتحدة: يمكننا حث القادة الأوكرانيين على التفاوض والموافقة على نسخة ما من شروط موسكو لإنهاء الحرب، كما تحاول إسرائيل القيام بذلك، أو يمكننا الاستمرار في منحدر زلق، يؤدي في النهاية إلى الحرب مع روسيا.. ومن دون أي مداولات أو تفكير، تختار واشنطن الخيار الأخير!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.