«شِباك خفية».. «الدستور» تخترق «جروبات» مافيا الزريعة السمكية
في الوقت الذي تسعى فيه الدولة بتعليمات من الرئيس عبد الفتاح السيسي لتنمية قطاع الثروة السمكية بالبلاد، باعتباره أحد أهم المصادر الغذائية الهامة، هناك مافيا تعمل بشِباك خفية على صيد زريعة الأسماك البحرية بما يُعد تهديدًا صارخًا لهذه الثروة، واعتداءً بيّنًا على القانون المُنظِم لحمايتها.
أنشأ بعضًا من أعضاء هذه المافيا عددًا من «جروبات» التواصل على موقع «فيسبوك» لبيع تلك الزريعة من الأسماك المُجرّم اصطيادها بهذا الحجم، مثل البوري والدنيس وغيره، وذلك رغمًا عن كافة القوانين المانعة لهذا النشاط.
«الدستور» اخترقت هذه الجروبات السرية وأجرت اتفاقات موثقة مع هؤلاء التجار حول شراء كمّ كبير من الأسماك الزريعة.
التجار: بنبيع بالألف سمكة في حجم «عقلة الأصبع»
الاتفاق الأول تم بين المحررة والتاجر إسماعيل محمد أحد تجار الزريعة بمحافظة البحيرة، رشيد، وفيه ادعت المحررة الحاجة إلى شراء ذريعة من السمك البوري لبدء مشروع تربية سمك بأحواض فوق سطح المبنى الذي تقطن فيه.
«متوفر كل اللي انتي عايزاه شوفي طلبك واحنا تحت أمرك».. كان هذا هو الرد الأول للتاجر الذي أكد توافر السمك البوري المُجرّم تداول زريعته بل وتوافر غيره من زريعة الأسماك الأخرى.
اتفاق هاتفي بين محررة «الدستور» وأحد مافيا زريعة الأسماك
تابع التاجر: عايزه كم ألف؟ موضحًا أن الذريعة تُباع بداية من عدد الألف سمكة فما أكثر.. بنبيع بعدد السمك مش بالكيلو، وعن سعر الـ1000 من البوري أكد أن هناك نوعان من الذريعة الأول بحجم عقلة الإصبع الواحد وهي بسعر 1500 جنيه للألف سمكة، وهناك ما هو بحجم الثلاث عُقل من الأصابع وسعر الألف منها 2500 جنيهًا.
وبالفعل تم اتفاقًا وهميًا بين المحررة والتاجر على شراءها ألفًا من زريعة السمك البوري ذو حجم عقلة الأصبع الواحد كبداية تعامل بينهما حتى تتوسع في المشروع «كما زعمت»، وأكد التاجر خلال الاتفاق أن هناك إمكانية لتوصيل الكمية المطلوبة لأي مكان بالجمهورية مع تحملها تكاليف النقل «العربية توصلك في أي مكان وفلوس النقل عليكي» وأن لا عليها أكثر من ذلك لتحصل على الزريعة.
وأبرمت المحررة اتفاقًا ثانٍ مع تاجرًا آخرًا من تجار الزريعة بهدف شراء البوري منها أيضًا، وذلك لكونه أكثر الأنواع المُجرّم تداولها بهذا الحجم نظرًا لصعوبة تفريخه.
البوري بـ3200 جنيه والعلف بـ800 والتوصيل بطريقتين
«الألف سمكة بـ3200» قالها التاجر أحمد علي من محافظة كفر الشيخ وكما هو ملاحظ فهو يبيع بأكثر ما يعادل ضعف المبلغ الذي يبيع به التاجر السابق، موضحًا أن لديه كذلك العلف اللازم له، وأن سعر الطن منه 8000جنيهًا.
وأضاف التاجر أن الألف سمكة بوري تحتاج فقط إلى شكارتين من العلف وبالتالي فسعرهم لا يتعدى ال800 جنيه، ليكون المبلغ الإجمالي اللازم لتربية ألف سمكة من ذريعة البوري هو 4000 جنيهًا.
أما عن طريقة التوصيل أكد أن هناك طريقتان الأولى من خلال سيارة «مخصوص» تنقل الكمية للعميل وهنا يضطر إلى تحمل تكلفتها بالكامل، والطريقة الثانية شحن الكمية من موقف رشيد بالإسكندرية واستلامها من قبل «الزبون» هناك.
نوعًا آخر من أنواع الزريعة المُجرّم تداولها لصعوبة تفريخها وهي أسماك الطوبار، والتي لم تخلو «جروبات» مافيا الأسماك عن الإعلان عن توافرها بكثرة، لذا كان الاتفاق الثالث الذي قامت به «الدستور» حول زعم شرائها من هؤلاء.
تاجر: «ناس بتبيع الطوبار على أنه بوري علشان تكسب»
أكد التاجر علي حسين أحد تجار الزريعة بمحافظة كفر الشيخ، الذي تم إبرام اتفاق وهمي معه عن توافر زريعة سمك الطوبار بسعر 1200 جنيهًا للألف سمكة، موضحًا أنها لا تفرق كثيرًا في مظهرها ومذاقها عن السمك البوري سوى بكونها تتميز برأس أصغر قليلًا منه، وأوضح أنه ببعض الأحيان يقوم البعض من تجار الزريعة ببيع الطوبار على أنه بوري محققين فيه أضعافًا من المكاسب نظرًا للاختلاف الكبير في السعر بينهما.
وتابع أن كثيرًا ممن يشترون زريعة السمك البوري يصدمون بنفوقها ومرضها السريع «البوري الصغير ده بيموت بسرعة» يقولها موضحًا أنه سمك شديد الحساسية في تربيته، بل وأكد أنه دائمًا ولهذا السبب ينصح بشراء زريعة الطوبار بدلًا منه، كما أنه يُعد أحسن اختيار كونها اتجهت لشراؤه.
«جروبات» مافيا الزريعة أعلنت كذلك عن توافر العديد من أنواع الأسماك الأخرى المجرّم تداولها مثل أسماك «الدنيس» الذي توافر بسعر 800 جنيهًا للألف سمكة.
رئيس هيئة الثروة السمكية السابق: يستخدمها البعض كعلف للطيور
الدكتور محمد عتمان رئيس هيئة الثروة السمكية السابق والأستاذ بكلية الزراعة جامعة عين شمس، أوضح في حديثه لـ«الدستور» أنه يوجد نوعان من الزريعة، الأول هو ذلك النوع الذي يُستخرج من مصادر طبيعية فقط، ويأتي على رأسها أسماك البوري والطوبارة، مشيرًا إلى أن هذا النوع مازالت مصر في طور محاولة تفريخه ولم تنجح بعد، وهو ما يعني أن أي استهلاك للزريعة منه هو استهلاك من مصدره الطبيعي، وبالتالي التأثير المُباشر على كمياته والتسبب في نقصانها.
أما النوع الثاني فيشمل الأسماك التي يُتاح تفريخها صناعيًا وبالتالي يُمكن إنتاج كميات مُضاعفة منها، وعلى رأس هذه الأسماك السمك البلطي، وبالتالي لا ضرر من استخدام زريعتها التي تكون أغلبها من إنتاج هذه المفارخ، مشيرًا إلى أن مصر تأتي في الترتيب الثالث عالميًا في إنتاج السمك البلطي.
وأضاف «عتمان» أن هناك مع الأسف من يبيع زريعة الأسماك الطبيعية لمربي بعض أنواع الطيور لاستخدامها كعلف وهو ما يُعد إهدارًا صارخًا للثروة السمكية خاصة بهذه الأسماك ذات الكميات المحدودة.
وأردف أنه لا يشجع كذلك بيع زريعة الأسماك الطبيعية لمشروعات الاستزراع السمكي، موضحًا أنه من الممكن استبدال الزريعة بالأسماك الأمهات وتنتج بمتوسط إنتاج من 200 ألف إلى 300 ألف بيضة، ليتم ذلك بدلًا من استخدام 200 أو 300ألفًا من أسماك الزريعة والتي تحرم مصر بعد ذلك من أطنانًا مهولة من الأسماك التي كانت في طريقها للنمو والتكاثر.
وختم رئيس هيئة الثروة السمكية السابق حديثه بأن صيد الزريعة بالمخالفة للقانون تسبب في أنه وحسب إحصائيات منظمة الأغذية والزراعة أصبح إنتاج المناطق المُطلة على البحر المتوسط1.2مليون طن فقط، وذلك بعد أن كان 10 مليون طنًا في منتصف الخمسينات، وهذا نتيجة أعمال الصيد الجائر للزريعة.
مستشار الوزير للثروة السمكية: القانون وإنشاء المفارخ وسائل الدولة لمحاربة مافيا الزريعة
وقال الدكتور خالد عبد العزيز الحسني رئيس الهيئة العامة للثروة السمكية الأسبق، ومستشار الوزير الحالي أن الدولة واجهت أعمال صيد الزريعة من خلال إنشاء العديد من المفرخات لإنتاج وتنمية الأسماك بشكل صناعي سواء كانت أسماك عذبة أو أخرى بحرية في مختلف أنحاء الجمهورية، فهناك على سبيل المثال 14 مفرخًا في مُدن الصعيد ومُفرخين بمحافظة الإسكندرية بمنطقة الكيلو 21، وغيرهم بالمحافظات الأخرى مثل محافظة كفر الشيخ، وذلك لتوفير وإنتاج أسماك مثل الدنيس والقاروص وغيرهم.
وتابع أن الدولة بأجهزتها ومن بينها هيئة المسطحات المائية تضرب بيدٍ من حديد على كل من يُضبط بصيده للزريعة السمكية أو يرتكب مخالفات تتعارض مع قوانين الصيد المُنظمة، إذ يوقع عليه عقوبة بالقانون القديم تصل إلى 10سنوات، إضافة إلى الغرامة التي قد تصل إلى مليون جنيه، مشيرًا إلى أن هذا القانون بصدد أن يتم تغييره حاليًا، من أجل تشديد العقوبات على المخالفين بصورة أكبر.
عضو لجنة الزراعة: الصيد يحكمه ضوابط فنيه تتعلق بتوقيته وبفتحات الشبكات
الأمر نفسه أكده مجدي ملك عضو لجنة الزراعة بمجلس النواب، مشيرًا إلى أن الصيد يحكمه العديد من الضوابط الفنية والقانونية تتعلق بحجم فتحات الشبكات لعدم صيد أسماك بحجم الزريعة، وأخرى تتعلق بتوقيت الصيد حيث يحظر الصيد في توقيت تكاثر السمك وذلك حفاظًا على نمو الثروة السمكية.
وتابع أنه في المقابل ولمواجهة ما يُسببه صيد الزريعة من أخطار على مستقبل الثروة السمكية، تُنفذ الدولة العديد من المشروعات بالفترات الأخيرة من أجل تنمية هذا القطاع الهام والحيوي من بينها إنشاء الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية الذي تم عام 2015.
وتتبع الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالشراكة مع الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية، وتقوم على رعاية الثروة السمكية وتطويرها والإشراف على المسطحات المائية وتوفير المنتجات السمكية للمواطنين بأقل الأسعار، كما يتم العمل على استعادة كفاءة البحيرات المصرية وعودتها لسابق عهدها.
رئيس الهيئة العامة للثروة السمكية: البوري أكثر الأسماك تداولًا وصدور قانون أشد ردعًا للمخالفين
الدكتور صلاح مصيلحي رئيس الهيئة العامة للثروة السمكية أوضح في تصريح خاص لـ"الدستور" أن صيد زريعة الأسماك له آثارًا سلبية خطيرة على المسطحات المائية لكونه يُقلل من الناتج الكلي للأسماك، وخاصة أن بعض من هذه الأنواع لا تُفرخ في الأسر الأمر الذي يُفقد المصائد الطبيعية جزءًا كبيرًا للغاية من تجدد مصادر الثروة السمكية وتدهور المخزونات السمكية.
وتابع أن الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية تواجه مافيا الذريعة من خلال وضع شروط لعملية صيد الذريعة للمزارع السمكية وإشراف قوات حرس الحدود مع الهيئة على عمل هذه المجموعات، بالإضافة إلى تنفيذ الحملات على الطرق لضبط السيارات المحملة بها.
وأضاف مصيلحي أن أكثر الأماكن التي يكثر فيها صيد الذريعة هي مناطق البواغيز وخاصة بمحافظة دمياط وذلك نظرًا لوجود مراكب كثيرة مرخصة نزهة فتستغل ذلك وتصطاد تلك الزريعة خاصة من أسماك العائلة البورية لبيعها للمزارع موضحًا أن أسماك البوري والطوبار والسهيلي هي أكثر الأنواع التى يتم صيدها نظرًا لصعوبة تفريخهم ثم يأتي بعد منهم الدنيس والقاروص.
وأوضح رئيس هيئة الثروة السمكية أنه كان يتم تنظيم عملية الصيد بموجب قانون الصيد رقم 124 لسنة 1983 ونظراً لتقادمه وضعف العقوبات الموجودة فيه وبتوجيهات فخامة السيد رئيس الجمهورية تم تحديث القانون وصدر القانون رقم 146 لسنة 2021 بإنشاء جهاز حماية وتنمية للبحيرات والثروة السمكية.
ونص القانون في مادته رقم 31 على حظر صيد أو جمع أو نقل زريعة الأسماك من البحر أو البحيرات أو المسطحات المائية الأخرى أو العبث بأماكن وجودها وتكاثرها وعاقب كل من يخالف ذلك بالحبس لمدة من سنة إلى ثلاث سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد عن خمسمائة ألف جنيه.
وكانت آخر وقائع صيد الزريعة التي تم ظبطها منذ أيام قليلة، وذلك حين تمكن موظفو مشروع دعم وتنمية الخدمات بمحافظة كفر الشيخ، خلال أسبوع من ضبط سيارتين محملتين بـ32 ألف وحدة أسماك زريعة (مجرم صيدها قانونًا)، أثناء تهريبها بعد صيدها من بحيرة البرلس.
وأعلنت المحافظة أنها قد نجحت في ضبط سيارة زريعة ببلطيم تحتوي على 25000 وحدة زريعة سمك طوبار، وجرى تسليمها لشرطة المسطحات ببلطيم، وتحرير المحضر اللازم، كما جرى تسليم الزريعة المضبوطة للثروة السمكية.
ويبلغ إنتاج مصر من الأسماك حاليًا 2.2 مليون طن منها 80% من الاستزراع السمكي، و20% من المصايد الطبيعية بزيادة 100 ألف طن عن عام 2020، بحسب تقرير صادر عن هيئة الثروة السمكية في يوليو من العام نفسه.