رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الولى والوالى

حاتم رضوان
حاتم رضوان

 

ويقال إنه فى زمن أبعد، ظهر شيخ مبارك، حكى عنه الأهالى كرامات ومكاشفات، أقسم البعض أنه شارك فى رد هجمات الصليبيين عن مصر وفلسطين، وهو بينهم لم يبرح مكانه قط، ذاع صيته فى المركز الصغير، اتسع فيما بعد وأصبح مدينة وعاصمة للإقليم، أحاطه المريدون، والتفوا حوله، يستمدون العون، ويسألونه البركة، وأفردوا له منزلة كبيرة فى نفوسهم.

غضب والى المركز، وأراد أن يكيد له، ينصب له فخًا، يسخر منه، يكشف للناس أنه محتال يعزف على أوتار إيمانهم، يجعلهم يضحكون منه، وينصرفون عنه، دعا الوالى الشيخ وأكابر المركز إلى وليمة كبيرة، أمرَ، فذُبحَ كلب دون أن يعلم أحد بأمره، شواه، ووضعه أمام الشيخ الذى ابتسم، سحب سوطًا من يد أحد حراس الوالى، سمى باسم الله الرحمن الرحيم، ضرب الكلب المذبوح، فهبَّ واقفًا، يعوى أمام الجميع.

صُعِقَ الوالى، وتراجع للوراء وسط ذهول كل من حضر، وخر يطلب الصفح والعفو من الولى. وعندما مات الولى أقام الوالى له ضريحًا، خط أعلاه على لوحة من المرمر: العارف بالله الشيخ عبدالله النجار وبنى فوقه مسجدًا، ما زال موجودًا حتى الآن بمنطقة السوق القديمة، يعرفه كل أبناء المدينة بجامع النجار.

 

الفيضان

فى زمن بعيد لم يكن هناك سد، يحبس خلفه هياج النهر وتمرده، علا الفيضان، اجتاح فى طريقه الجسور التى أقاموها على عجل، أغرق البيوت والبشر، اجتمع أهل القرية المغلوبون، يتدبرون أمرهم، ماذا هم فاعلون، وأيديهم قصيرة؟ لا يملكون شيئًا أمام غضب السماء، أكثروا من الصلاة، رفعوا أيديهم ووجوههم نحوها، يستجدونها الرفق بحالهم، أن يرفع الله مقته وغضبه عنهم، استغاثوا به، يدفع عنهم البلاء والخطر، شكوا إليه ضعف قوتهم وقلة حيلتهم، والنهر ما زال يعلن تمرده، لا شىء يقف أمامه، حتى جاء، رأوه من بعيد، جذع شجرة يطفو وسط النهر، يتعلقون به كآخر بصيص للأمل، تهللوا، وبرقت عيونهم بفرح حقيقى، رغم أحزان الفقد والضياع، بيوتهم المتهدمة، حقولهم الغارقة، متاعهم الضائع، ودوابهم النافقة، الموت المتربص بهم فى كل مكان، هرولوا إليه، يتوسلون مخرجًا، ينفذون منه، أوشكوا على الهلاك، الغوث، الغوث يا صاحب اليد، أشار لهم، تبعوه، وقف، تحلقوا حوله فى نصف دائرة، أمامهم النهر الغاضب، وشيخهم فى المركز، انحنى إلى الأرض، انتقى حصاة صغيرة، مستديرة، قربها من فمه، وشوشها، أسرَّ إليها بأوراد وأدعية، وبكل ما فيه من عزم رماها، لتبتلعها المياه، سأل الجمع أن يرددوا وراءه: عُدْ حيث كنت.. عُدْ حيث أنت.

علت دوامة مفاجئة. قذفت بهم للوراء، وسحبته- وهو واقف- من بينهم إلى مركزها، ابتلعته، تلفتوا حولهم لم يجدوه، بحثوا فى كل مكان، اختفى، راقبوا الدوامة من فوق تبة عالية، تودع غضبها، تتراجع للخلف، انحسرت المياه، هدأت، وصارت كما بساط مفروش.

مجذوب المقام

وفى زمن أقرب، حكى جدى عنه، سيرته التى لم تنقطع إلى وقتنا هذا، معجزته تحدث بها القاصى والدانى، جذبه الله عمَّن حوله، يسير وسطهم فى دنيا غير الدنيا، يلبس أسمالًا بالية، يرفض تغييرها، وإن وهبوه غيرها الجديد، يجوب المدينة نهارًا، طليق اللحية، أشعث الشعر، وعند الليل يأوى إلى المقام، ينام فى كنفه جوار المقصورة، يأنس بحضرة صاحبه، يحدثه، ويشكو إليه، يقدم له تقريرًا مفصلًا عن كل ما يدور فى المدينة، أحوالها وخباياها. لم يخمن أحد ما يحدث أمام عيونهم، وقفوا على الجسر فى ذهول، يتابعونه، هل أخذته الجلالة؟ خُيل له أنه يمشى فوق الماء، كان يخوض فى ماء النهر، فى موقع قصى شمال المدينة، فاردًا ذراعيه، يحركهما مثل طائر يحلق بجناحيه، لا يلتفت للنداءات التى تعالت، تحذره وتأمره أن يعود، لحظات وسحبته دوامة إلى قلبها، غطس وقب مرات، وكأنه يقاوم يدًا تجذبه للقاع، انطلق وراءه السباحون والمنقذون، ابتلعته الدوامة، اختفى، غيبه النهر فى باطنه. أيام من البحث والانتظار والتوجس، طفا جثمانه إلى السطح، عرفوه من أسماله الممزقة، خالف قوانين الطبيعة والفيزياء والمتوقع، كان يسبح ضد التيار، من الشمال إلى الجنوب، حاولوا التقاطه، كان يشدهم خلفه حتى رسا عند نقطة من الشط تواجه مقام حبيبه، كفنوه، صلوا عليه وحملوا نعشه على الأكتاف، ساروا به إلى المقابر القريبة، وفى الطريق توقف النعش أمام المقام، أبى ألَّا يتحرك، فشل المشيعون فى زحزحته، علا صوت الخادم: صاحب المقام ناداه. دفنوه فى ساحته، وبنوا عليه ضريحًا، واقترن اسم المجذوب بوليه فى الحياة وبعد الموت.