رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شخصيات لا تزال تعيش بيننا

رغم الاختلاف بين النص وشريط السينما على صعيد الطرح الفكري وتركيب الشخصيات، إلا أننا لا نستطيع إنكار عالمية الفيلم وحرفية المخرج حسين كمال في استخدام الرمزية البصرية في شرح فلسفة الأبطال، ولو بدون صوت.

من المؤكد أن الأستاذ أنيس زكي من الشخصيات المركزية في رواية "ثرثرة فوق النيل" للكاتب المصري نجيب محفوظ (نوبل 1988). هذه الشخصية التي تقدم الكثير من الحلول في نهاية الرواية عبر سيرها على نفس مسار، أو في مسار موازٍ لمسار، شخصية بطل رواية "الغريب" لألبير كامو الذي استيقظ في نهاية المطاف ليعي بتبعة آثامه وتداعياتها. وبالتالي من الطبيعي أن نتوقع منه الكثير بعد انتهاء الرواية... أو لا نتوقع شيئًا.

استطاع فيلم "ثرثرة فوق النيل" أن يعكس ليس فقط عالم رواية كاتبنا نجيب محفوظ، بل وأيضًا نجح في نقل أحد أوجه الحراك في المجتمع المصري بذكاء درامي واهتمام بالتفاصيل الإنسانية والحياتية لكل شخصية من الشخصيات. فرجب القاضي الذي تتكون شخصيته من خليط متداخل من عناصر "القوادة" و"القوادين"، والذي لا يشبه محجوب عبد الدايم في "القاهرة الجديدة" ولا يشبه أيضًا فرج إبراهيم في "زقاق المدق" هو ابن زمنه ومكانه وظروفه، وهو خلطة تلخص شريحة معينة في مصر مطلع ستينيات القرن العشرين، وخصوصًا السنوات التي سبقت هزيمة يونيو 1967، وربما خلطة العامين الأخيرين في حقبة الخمسينيات والعامين أو الثلاثة الأوائل في مطلع الستينيات تحديدًا، عندما كانت تتراكم أحلام وشعارات بناء الأمة وبناء المجتمع، بينما الفرد نفسه كان لا يزال في مأزق وجودي.

كان رجب القاضي يمتلك كل الأدوات الممكنة للحياة آنذاك، لدرجة أننا يمكن أن نشعر بوجوده ووجود أمثاله في أماكن كثيرة الآن في عصرنا الراهن، وقد نقابله في أماكن عامة وخاصة، وفي عوامات وصالونات، وفي شلل تتحرك حتى الآن بيننا. بالضبط مثل الأستاذ أنيس زكي الذي نلمحه بقوة في كل شوارع وحواري ومؤسسات مصر عمومًا، والقاهرة على وجه الخصوص.

أما شخصية عم عبده حارس العوامة، فهي الشخصية الأكثر اتساعًا وعمومية وأهمية وتشعبًا وتشابكًا ومركزية على الرغم من "خفوتها" وعدم التركيز عليها ضمن الأحداث البارزة والمحورية والكبرى والمهيمنة التي تشد المشاهد وتجذب اهتمامه، وتجعله يلهث وراء حركتها وكلامها. لكننا نجد عم عبده حاضرًا في كل تفاصيل الحياة في العوامة وخارج العوامة. فهو المسئول عن شد الحبال وتثبيتها حتى لا تغرق العوامة، وهو الذي ينظف المكان (داخل العوامة وخارجها)، وهو الذي يقوم بترتيب المكان وتجهيز "القعدة" بكل لوازمها وبكل ما يحتاجه الجميع من الصحفي والمترجم حتى المثقفة والراقصة والمثقف، وهو إمام الزاوية والمتدين الورع الذي يصلي الفرض بفرضه، وهو الذي يأتي بكل ما يلزم لزبائن العوامة وساكنيها، ويقوم بكل الخدمات اللوجستية والاتصالات.

عم عبده لا يتكلم كثيرًا. ينظر فقط، ويتحرك فقط، وطوال الوقت لديه ما يفعله ويقوم به، سواء برغبته أو بدون رغبته، سواء بإرادته أو بدون إرادته. إننا حتى لا نعرف ولا نلمح ولا نشعر بهذه الرغبة والإرادة، بل ولا نشعر أيضًا بغيابهما. إنه طوال الوقت غارق في حلقة ما من حلقات متشابكة في سلسلة من الانشغال والهم والمهام... فمَنْ هو هذا الرجل العجيب القوي والضعيف والمؤمن والقواد والقادر على كل المهام المذكورة أعلاه؟! يمكننا أن نفكر ونتأمل هذا الرجل الذي لا يزال يوجد منه الكثيرون إلى الآن.

كل شخصيات "ثرثرة فوق النيل" للكاتب المصري نجيب محفوظ لا تزال تعيش بيننا وتتصرف بنفس الوقاحة والفجاجة والعدمية، والتفلسف الفارغ، واللا مسئولية، والقوادة، والانتهازية، والغيبوبة، وخفة الظل، والإيمان، والتدين، والسخرية، والمزاح، والبغاء السياسي والثقافي، وهو ما قام الفيلم بتعميقه في وجدان المشاهدين داخل مصر وخارجها. والمهم هنا هو أن كل شخصيات هذا العمل الدرامي المهم هي شخصيات روائية حقيقية في سياقها الدرامي- السردي، ولا يوجد بينها ولا حتى شخصية واحدة وهمية أو مختلقة. كلها شخصيات روائية ومأساوية بامتياز رغم خفتها وخفة ظلها، ورغم إمكانية الحياة على احتمالها.