رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طوبة وأمشير!

 

لا أبالغ إذا قلت إن تتبع درجات الحرارة كان هو الشغل الشاغل لأغلب المصريين فى الأيام الأخيرة، وربما كان الحديث عن موجة البرد الأخيرة هو الموضوع الأساسى على موائد المصريين، ربما أكثر من الحديث عن كورونا أو حتى متابعة أخبار المنتخب الوطنى لكرة القدم.

وبينما كنت أتابع تطور درجات الحرارة ونسب سقوط الأمطار على مواقع البحث، جال بخاطرى السؤال التالى: كيف كان أجدادنا يتابعون حالة الطقس ومتغيرات المناخ قبل ظهور المواقع الإخبارية، والنشرات الجوية؟

هنا عادت بى الذاكرة إلى حكايات الأجداد عما يُطلق عليه «الشهور القبطية»، وكيف كانوا ينظمون أمورهم وطقوس حياتهم وفقًا لها، حتى إن بعضهم كان لا ينتبه كثيرًا إلى شهور السنة الميلادية أو حتى الهجرية، ويحسب أيامه وشئون حياته وفقًا للشهور القبطية.

ويخبرنا التاريخ بأن ما نطلق عليه «شهور السنة القبطية» ما هو فى الحقيقة إلا ميراث الحضارة المصرية القديمة «الفرعونية»، انتقل لنا عبر الحقبة القبطية واستمر معنا حتى الآن، ويعلم دارسو التاريخ القديم أن أسماء شهور السنة القبطية هى فى أصلها أسماء مصرية قديمة، بعضها أسماء لآلهة مصرية.. وعلى مر العصور والقرون كان الاقتصاد المصرى يسير وفقًا لهذا التقويم الذى برع فى إنجازه المصرى القديم؛ إذ كان هذا التقويم بمثابة «أجندة» الزراعة المصرية، واعتاد الفلاح المصرى على أن يرتب شئون حياته وفقًا لهذا التقويم، وفى ذلك يقول العلَّامة أحمد أمين فى «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية»: «كثيرًا ما يستعمل الناس، خصوصًا الفلاحين، الشهور القبطية بدل الشهور العربية والإفرنجية، لأنها ثابتة تتبع الشمس، فيمكن أن يرتبوا عليها مزارعهم ومحاصيلهم، وصيفهم وشتاءهم».

واعتاد المصريون بخفة ظلهم إطلاق أمثلة دالة وشارحة على كل شهر من شهور التقويم المصرى، وبمناسبة موجة البرد الشديدة التى اجتاحت مصر فى هذه الأيام، ربما لا يعلم البعض أننا الآن نودع شهر طوبة، وهو أبرد شهر فى العام، ومن شدة برودته تندَّر المصرى على هذا الشهر قائلًا: «طوبة تصيّر الصبية كركوبة»، أى تصبح الشابة عجوزًا من شدة البرد، أى أن الصبية القوية تكون بردانة كسلانة كأنها امرأة عجوز، وهو الشهر الذى ينتهى عادةً مع بدايات شهر فبراير.. ويُقسِّم المصرى القديم شهر طوبة إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يساوى عشرة أيام منه: العشرة أيام الأولى برد معتدل، ثم العشرية الثانية وهى شديدة البرودة بل تعتبر أبرد أيام السنة وتبدأ هذه العشرية بليلة ١١ طوبة التى عرفها المصرى بليلة الغِطاس «أحد الغِطاس» حيث من المتوقع سقوط أمطار، وكان المصرى القديم يتشاءم إذا لم تسقط الأمطار فى هذا اليوم، ويعتبر ذلك نذير غضب السماء، أما العشرية الأخيرة من طوبة فهى أقل برودة، لكن فى آخرها تشتد الرياح، وتمتد شدة الرياح مع العشرة الأوائل من أمشير ويُطلِق عليها المصرى «زفة أمشير» كمقدمة لشدة الرياح فى بدايات أمشير «زعابيب أمشير». ويتفاءل المصرى القديم بالعشر الأواخر من أمشير، والتى عادةً توافق بدايات شهر مارس، حيث يبدأ الدفء تدريجيًا، من هنا أطلق المصرى المثل القائل «أمشير يقول للزرع سير سير»، لأنه فى أواخر أمشير يسخن بطن الأرض ويبدأ الزرع فى النمو. ومع انتهاء أمشير يأتى شهر برمهات، وهو من أهم شهور السنة لدى الفلاح، لأنه شهر الحصاد، لذلك يقول المصرى القديم عن شهر برمهات: «برمهات روح الغيط وهات» دليل على أن الزرع نضج والمحصول استوفى، وهو يوافق شهر أبريل.

هذه هى عبقرية المصرى القديم فى تعامله مع الطبيعة والنيل، وهذه هى هويتنا التى نفخر بها، لتبقى فى الذاكرة المصرية.