رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جريمة الإسماعيلية.. كيف تضر التكنولوجيا بالشعوب الفقيرة؟

 

سمعت بجريمة الإسماعيلية الأخيرة، ولم أشاهد الفيديو المتداول عنها أو أتابع تفاصيلها، وظللت يومين أتخيل القاتل ممسكًا برأس القتيل المفصول من شعره ويسير به فى الشارع، لكن تم تصحيح المعلومة بأن القاتل كان يحمل الرأس فى كيس بلاستيك أسود.. اهتزت الصورة التى رسمها خيالى مستدعيًا صورة رأس سيد الشهداء الحسين وقد تم تعليقه على حربة، ما الذى يحدث؟ العنف، التجبر، فقدان العقل ليس جديدًا، لكنه ظل يحدث فى ساحات الحروب، حيث يكون مبررًا نفسيًا أن يفقد الجنود فى العصور البدائية إنسانيتهم، فيقدمون على سلوكيات همجية، بوازع من الانتقام المتبادل، الإحساس بالقوة، ووجود دعم من رفاق السلاح لإظهار المزيد من القسوة والعنف ضد الأعداء.

إذن فليس هناك جديد، الجديد هو أن يحدث ذلك فى وقت سلم، لكن هذا السلم يبدو سطحيًا هشًا، أمام الضغوط اليومية والتفاصيل الصادمة، بحيث تحولت شوارعنا ومواصلاتنا ومقاهينا ومصالحنا الحكومية إلى ساحة حرب، يتم فيها اختراق الأعراف والقوانين، ويتنافس الناس على إظهار الغضب والعنف والتعبير عنهما دون تقيد بسلطة قانون أو دولة، ويزيد من احتقان ساحة الحرب المفتوحة التى نعيش فيها، إصرار قطاع كبير من الشعب، بما فيه من سلطات روحية، على استدعاء تعاليم وقوانين ورؤى وتفسيرات الماضى، وتكبيل عقل الإنسان وقدرته على التفكير والتدبير، فيصبح منشغلًا بمجموعة من الأطر الدينية الشكلية، التى تزيد اضطرابه ما بين تخويف وتعذيب، وما بين رغبات ونعيم مادى وحور عين، فتظل روح الإنسان فى شقاق ولا تجد أى مرفأ، وتزداد كل صباح احتياجات ورغبات الناس، ومع ازدياد التقدم التكنولوجى وانتشار المعرفة عمَّا يمكن أن يملكه الآخرون، كل شخص الآن يعرف كل شىء عن حياة الآخرين، لم تعد هناك أساطير ونضبت المخيلة الشعبية عن حياة الأثرياء، لأنهم أصبحوا يرونها ويلمسونها على تليفونهم المحمول، هذه المباشرة أمام الفقر وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية التى يرتفع سقف متطلباتها، مع التعرض المتزايد لكل ما هو جديد ومتطور فى التعليم والصحة والاتصالات، تؤدى إلى توليد الغضب والنقمة وزوال كل ما يمت بصلة بالراحة والرضا.

هل المعرفة هى الثمرة المحرمة التى كان علينا تجنب أكلها؟ هل أضر التقدم التكنولوجى بالمجتمعات الفقيرة؟ هل نحن مؤهلون عقليًا وفكريًا لهذه الكونية التى تلغى الحدود والفواصل؟ 

أجيب فى تصورى أن المشكلة ليست فى المعرفة أو التكنولوجيا، لكن المشكلة تكمن فينا. نحن نستخدم التكنولوجيا دون أن تطور مفاهيمنا وعلاقاتنا فى الحياة، التكنولوجيا تسهل الحياة وتجعل كل شىء سهلًا، قريبًا، مباحًا، متاحًا، إذن هذا ما ينعكس على تفكيرنا، فنجد الشباب يستهينون بالتعليم والانضباط والجدية وقواعد الاحترام، لأنهم مستهلكون فقط، أما منتجو هذه التكنولوجيا فلا يعانون ما نعانى من صراع ضخم وتحول الحياة لساحة شجار وحرب وسب وشتائم، لا راحة ولا هدنة ولا تروى ولا تفكير، العقل الذى أنتج هذه التكنولوجيا يعلى من قيمة الوقت والتعليم والابتكار والإبداع والانضباط، العقل الذى أنتج التكنولوجيا قادر على ترشيد استخدامها والاستفادة منها، لكننا نتسلى ونضيع وقتنا، ونهرب من واقعنا بالمخدرات أو التماهى مع أزمنة مضت.

يتحدث الناس العاديون عن إكسبو دبى، تحقق الفيديوهات التى تتحدث عن المبتكرات الجديدة فى المعرض ملايين المشاهدات، يتبادل الشباب صور المعرض وما به من مخترعات: سيارات ذاتية القيادة، أجهزة محاكاة للفضاء تقدم عرضًا لبرامج الإمارات لاستكشاف الفضاء، تكنولوجيا القطارات السريعة، قمر صناعى إذاعى يحلق فى سماء المعرض، طابعة رباعية الأبعاد قادرة على محاكاة الخلايا الحية، روبوتات تعزف موسيقى بيتهوفن، تحويل النفايات البلاستيك إلى أثاث باستخدام الروبوت، تحويل البلاستيك إلى خيوط صالحة لإنتاج الأقمشة والملابس.

يسمعون عن مليارات الدولارات والاستثمارات وفخامة وضخامة الجناح المصرى والوزراء والشخصيات العامة والوفد الرسمى المشارك فى المعرض.. و.. و.. وتنتهى باقة النت للشاب أو الموظف وتنتهى حالة الفرجة دون فائدة، فلا يؤدى ذلك إلى إعلاء قيمة العلم والمتعلمين، بل يزداد السخط والغضب وكل شىء أصبح سهلًا حتى البلاستيك سيتحول لخيط دون تفكير فى الجهد والعمل والساعات التى قضاها من يقدمون هذه الاختراعات.

ويعود المواطن للبحث عمَّا فى جيبه كى ينفقه على الأدوية والمواصلات والدروس، ويمارس فهلوته وقلة صبره، ويطلق مزيدًا من السباب واللعن على العيشة ومن يعيشها ويغويه الرفاق بمواد مخدرة؛ كى يتحمل حياته فيتخيل نفسه، فارسًا ومجاهدًا ضد الكفار ولا يتورع عن التحرش بفتاة فى عز النهار أو قطع رأس شخص اختلف معه فى النقاش حول نتيجة مباراة أو أجرة تصليح مكواة.

والمواطن الغنى ماديًا ليس ببعيد عن هذه التفاعلات، لكنه سيتفنن فى حفلات العرى والجنس الجماعى وتسخير ما لديه من مال لتضييع نفسه ووقته، ويتفاعل الناس على فيسبوك وغيره، ثم يهدأون وينصرفون لملهاة أخرى حتى تظهر جريمة أكثر عنفًا وعبثًا، فيضيعون المزيد والمزيد من الوقت.. حتى يغطى الغبار وجه الشمس وينقرض الديناصور.