على جمعة: الشرع حاصر تداعيات الخطأ والخطيئة
قال الدكتور على جمعة مفتى الجمهورية السابق، وشيخ الطريقة الصديقية الشاذلية، إن الشرع الشريف رتب برنامجاً ممتازاً لمحاصرة تداعيات الخطأ والخطيئة من أجل تجاوزهما والبدء من جديد ولتستمر الحياة بعيداً عن سلبيات الخطأ والخطيئة، ونذكر ذلك في حقائق تبين المقصود، فالحقيقة الأولى هى أن تأصيل الفرق بين الخطأ والخطيئة يظهر في الحديث الذي وضعه البخاري أول حديث في كتابه باعتباره مفتاحاً من مفاتيح فهم الشرع الشريف، قال رسول الله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...» والنية في اللغة: القصد المؤكد، وهذا الحديث جعل الإنسان يراعي ربه الذي يعلم ظاهره وباطنه، وعمله ونيته، ويؤكد هذا الفرق قول النبي ﷺ : «إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». ومن هنا فقد يكون هناك أجر عند بذل الجهد مع الخطأ كقوله ﷺ : «من اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». ، لأنه لم يقصد الإساءة أو الأذية بل أراد الصلاح حتى لو لم يصل إليه، وفى المقابل فإن هناك ذنباً وإثماً على المتعمد للأذية كإخوة يوسف بعد ما ارتكبوه من جريمة حكى الله عنهم فقال: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)، فاعترفوا بذلك بجريمتهم وذنبهم، وخاطئ هنا تشمل فعل الذنب من قبيل الخطأ أو الخطيئة.
وتابع " جمعة" أما الحقيقة الثانية : قوله ﷺ : «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». وكلمة خطّاء صيغة مبالغة من اسم الفاعل «خاطئ» المشتمل على الأمرين، ومن هنا علّمنا رسول الله ﷺ الإقلاع عن الخطأ والخطيئة معاً، فكان وهو المعصوم ﷺ يقول: «إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ».
وأوضح: الحقيقة الثالثة : أن الوقوع في الخطأ قد يترتب عليه ضرر يستوجب التعويض والغرامة من ناحية، ويستوجب التربية وضبط النفس من ناحية ثانية، ويستوجب الاعتذار وتسلية المتضرر بعقاب النفس من ناحية ثالثة، وأحسن مثال لذلك هو القتل الخطأ الذي يكون على سبيل الحادثة وليس على سبيل العمد ولا شبه العمد، إلا أن الله، سبحانه وتعالى، قد رتب عليه الدية، وهي غرامة مالية لأهل القتيل، ورتب عليه أن يصوم من قتل خطأ شهرين متتابعين على سبيل الكفارة، وهذا نوع من أنواع التربية للنفس، وشيوع مفهوم عدم الاستهانة بهذا الفعل حتى قبل وقوعه كثقافة عامة في الناس، وفيه أيضاً معنى الاعتذار لأهل القتيل، وأن حبس النفس عن مألوف طعامها وشرابها لمدة شهرين متتابعين يؤكد عدم العدوان، ويؤكد الحزن على النتيجة التي ترتبت على ذلك الفعل، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيماً * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).
وأشار:الحقيقة الرابعة: أن رسول الله ﷺ أمرنا ببرنامج متكامل بإزاء الخطأ والخطيئة، يبدأ بالاستغفار والتوبة التي تشتمل على: الإقلاع عن الذنب، والندم على الفعل، والعزم على عدم العودة مرة أخرى إليه، وقد يحتاج هذا إلى كفارة وإلى غرامة وإلى رد الحقوق إلى أصحابها، ومع هذا فقد أمرنا بعدم تتبع العورات واصطياد الأخطاء أو الخطايا، وأمرنا بالستر الجميل، وأمرنا بالعفو والتجاوز، وأمرنا بعدم التعيير، فقال ﷺ: «من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». وقال: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ». وقال: «يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذل -أو الجذع- في عين نفسه» . وقال: «لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيّروهم، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبّع عورة أخيه المسلم تتبّع اللّه عورته، ومن تتبّع اللّه عورته يفضحه ولو في جوف رحله». وقال: «إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخوانا». وقال: «إنّك إن اتّبعت عورات النّاس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» .وقال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .