رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحب الذى لا يعرفه الإرهابيون

سأل أحدهم دار الإفتاء عن رأى الدين فى نوم المسلم معظم ساعات النهار، فقلت لنفسى هذا لا ينبغى أن يسأل مفتيًا، بل يجب أن يسأل طبيبًا، وسأل آخر عن رأى الدين فى الغناء فى الحمام، فقلت لنفسى هذا لا يفرق كثيرًا عن الذى يغنى فى مسابقات الغناء العربى، هذا أمر ينبغى أن يسأل فيه الجيران قسم الشرطة ليُسكتوا تلك الأصوات المزعجة! أما المفتى فما دخله فى هذا؟! وفى أحد الأيام كتب أحد الإخوان دراسة بحثية عن «رأى الإسلام فى الاحتلال غير المشروع للدول»، فأبديت تعجبى من هذه الدراسة، وقلت: «وهل هناك احتلال مشروع واحتلال غير مشروع؟!»، ثم استطردتُ قائلًا: هل من المطلوب أن نبحث عن رأى الإسلام فى كل كبيرة وصغيرة فى حياتنا، حتى ولو كانت من الأمور التى فطرنا الله عليها؟ أو تلك التى لا تقبلها الفطرة السوية، فنقول مثلًا ما رأى الإسلام فى شرب الماء عند الظمأ أو عند الشبع؟! وما رأى الإسلام فى السباحة فى الأنهار أم فى حمامات السباحة؟ وهكذا دواليك فى كل شىء فى الحياة.
ومع ذلك فإن الذين سيسوا الدين شوهوا فطرة الناس، فأصبح كلُ شىء مُلتبسًا فى حياتنا، هذا يسأل عن حُكم تهنئة الأقباط بأعيادهم، فيردون بالتحريم، وهذا يسأل عن حُكم إلقاء السلام على غير المسلمين، فيردون بالتحريم، وهذا يسأل عن حكم السفر لتلقى العلم فى أوروبا، فيردون بالتحريم، وحُكم أكل الخُشاف وشرب المياه الغازية وشرب الماء بوضعية وقوف الشارب والتبول واقفًا فى المراحيض الحديثة ووووووووووو فيردون بالتحريم، والحقيقة أن الإسلام ترك لنا مساحة كبيرة جدًا فى حياتنا نتحرك فيها كما نشاء، ولم يضع لنا ضوابط إلا فى أقل القليل، فالله سبحانه لم يخلقنا لنكون آلات ينبغى أن تتحرك حركة واحدة فى وقت واحد بطريقة واحدة، ولكنه تركنا لفطرتنا ولم يُحرم علينا إلا ما أورده فى الكتب السماوية حصرًا، ولكن كهنة الأديان أضافوا من المُحَرمات ما تعجز الجبالُ عن حَمْله، وكأن اللهَ سبحانه خلقنا ليُحرّم علينا مُعظم حياتنا! نحن بَشَرْ فطرنا الله على فِطرةٍ سليمة، فطرنا على الحب والحرية والكرامة والعدالة والرحمة، فطرنا على الرغبة فى المعرفة، وحفظ النفس والمال والعقل والنسل، فمن فسدت فطرته وساء خلقه لم يعرف للحب طريقًا، ولا للحرية مجالًا، ولا للكرامة الإنسانية قيمةً، ولا للعدالة مكانًا، ولا للرحمة موضعًا فى قلبه، مَن فسدت فطرتُه كان قاتلًا، وأبشع القتل أن يرتكبه ذلك الفاسد باسم الدين، أو قل باسم اللهِ سبحانه، وكأن اللهَ هو الذى أصدر إليه أمرَ القتل! ومن فسدت فطرته سرق مال الناس وهتك أعراضهم باسم الإسلام! وهكذا وهكذا، ولكن أين يذهب هؤلاء من قول الله سبحانه «فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا».
وإذا بحثت فى القرآن ستجد اللهَ سبحانه يُذكِّرَنا بما فطرنا عليه، فيقول عن فطرة الكرامة «ولقد كرَّمنا بنى آدم»، فالإنسان هو موضع التكريم من بين خلق الله؛ لذلك فإن الكرامة جزءٌ من فطرته، وعبودية الناس للناس ضد فطرة الحرية، لذلك سد الله أبوابها بعدما عاشت عليها البشرية قرونًا طويلة، وكذلك كان الحب بمفهومه الواسع، الحب الذى يخاصم الكراهية، ولذلك فإنك تستطيع أن تذهب إلى الله سبحانه من أبوابٍ كثيرة وطرقٍ مختلفة، ولكن أعظم طريق هو طريق الحب، وهو الطريق الذى يسلكه من استقامت فطرتهم، فإنك إن عبدتَ اللهَ لأنك تطمع فى جَنتهِ؛ فإنك تكون تاجرًا دخل فى صفقةٍ تجارية، وكأنك تقول: ها أنذا عبدتُك يا رب فاعطنى المقابل، جنتك التى وعدت، وإذا عبدتَ اللهَ خوفًا من ناره، فإنك آنذاك كالعبد الخائف الذى يقول لسيده: ها أنذا أطعتك يا رب فلا تعاقبنى، فالأولى هى عبادة الطامعين، والثانية هى عبادة الخائفين، ولكن أين أنت من عبادة المحبين الذى يعبدون الله ويتجهون إليه ويَصِلونه لأنهم يحبونه؟! حبك لله هو الذى يقودك إلى حب الخلائق.
ومن بشاعتهم أنهم افتأتوا على الرسول، عليه الصلاة والسلام، قولًا، هو «يُحشر المرء مع من أحب»، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه المروية، إلا أن من يقولها يجعلها دعوة للكراهية، ولمن لا يعرف أقول إن الإسلام أصلًا دعوة للحب، ولا يمكن أن يكون الحب تهديدًا للمسلم، الله عادل وحكيم، وليس كمثله شىء، يعنى لن يحاسبنا كما نحاسب أنفسنا فتدخل أهواءُنا فى الحكم، الله سيحاسبنا على أعمالنا وليس على مشاعرنا، والرسول، عليه الصلاة والسلام، هو الذى قال دعاءً مشهورًا هو «اللهم إن هذا قسمى فيما أملك، فلا تحاسبنى فيما لا أملك» وكان يقصد مشاعر قلبه كإنسان، دعا الله ألا يحاسبه عليها؛ لأنه لا يملكها، أما بالنسبة للواقع الذى مر به الرسول عليه الصلاة والسلام فهذه المروية تتناقض مع أشياء عاشها الرسول، هل تعرفون ما هى؟ الرسولُ كان يحب عمه أبوطالب الكافر، وبكى بكاءً كثيرًا عند موته، والصحابة أطلقوا على العام الذى مات فيه عمه وماتت فيه زوجته، أمنا خديجة، عام الحزن، عمه أبوطالب كان كافرًا، والرسول كان يحبه، فهل معنى هذا أن الرسول سيُحشر معه؟ كيف يفهمون الإسلام؟ الرسول كان يحب قومه، ولم يبغضهم، ولم يدعُ عليهم، ولم يوافق على أن يُطبق الملك الجبلين عليهم؛ لأنه كان يحبهم، ولكن دعوة الحب أصبحت للأسف تستخدم للكراهية، وسبحانك ربى.
ولعلكم تنتظرون الآن الإجابة عن حب الرجل للمرأة، وحب المرأة للرجل، ألهما مكانة فى الإسلام؟ ستكون الإجابة قريبة من إجابة «الاحتلال غير المشروع فى الإسلام» فالحب أيها الناس من فطرة الناس التى خلقنا الله عليها، ولم تستمر الخلائق فى الحياة إلا بسبب حب الرجل للمرأة وحب المرأة للرجل، ينبغى عليك أن تُحب، ويا للروعة حينما تُحَب، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أحب زوجته خديجة، رضى الله عنها، حبًا ملك عليه فؤاده، وبكى عليها يوم موتها، ونعرف كلنا أن الرسول أحب زوجته عائشة أم المؤمنين، رضى الله عنها، ولك أن تعلم أن الفقيه الأعظم «ابن حزم الأندلسى» كتب كتابًا شهيرًا هو «طوق الحمامة»، ومع وقار ابن حزم وعفته والتزامه إلا أنه أفاض فى كتابه فى الحديث عن عاطفة الحب، واحتوى كتابه على أخبار وقصص المحبين والعشاق وأشعارهم، وقد تعرض للحب فى كتابه من منظور نفسى ومشاعرى، فتحدث عن الحب من أول نظرة، ودرجات الحب بدءًا من الحب للشغف للصبوة للعشق للهيام، وتناول ابن حزم أحوال المحبين من إدمان النظر للمحبوب، والاضطراب عن رؤية المحبوب، والتعريض بالقول لتوصيل معانى الحب لمن يُحب، والمراسلة الصريحة بين المحبين.
وليس معنى هذا أن مقالنا يدعو إلى الحرام، فالحلال بيِّن والحرام بيَّن، والتعدى على الأعراض بتكأة الحب والعشق والهيام لا مكان له عند أصحاب الفطرة السليمة، ولكننا لا يمكن أن نطلب من أحد المحبين العشاق أن يطرد ذلك الحب من قلبه؛ لأنه لم يستطع الزواج ممن يحبها، ولا أن نطلب من فتاة أحبت وشغف قلبها بحب حبيبها أن تُصدر قرارًا لقلبها بهجر ذلك الحب، فالحب مكانه فى القلب، ونحن لا نستطيع أن نتحكم فى قلوبنا، ولا فى مشاعرنا، وقد كان حسان بن ثابت يلقى قصائده عن الحب بين يدى الرسول، وسورة يوسف فى القرآن حدثتنا عن امرأة العزيز التى قالت عنها صويحباتها «امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، قد شغفها حبًا، إنا لنراها فى ضلال مبين» لم يستنكروا منها الحب، ولكنهم استنكروا أن تُحب عبدًا لديها وهن نساء الطبقة الراقية، وتعرفون أنها دعتهن وطلبت منهن الخروج إليه ليروه، فلما رأينه قلن «ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم» فعذرنها، وظل حب يوسف فى قلبها حتى إنها بعد أن سجنته اعترفت أمام الملك بمكيدتها التى أدت لسجنه، إلا أنها اعترفت بحبها له ولم تستنكره.
هذه هى الفطرة أيها الناس فمن خالفها فقد خالف الفطرة، هى الفطرة التى عليها المسلم والمسيحى واليهودى والبوذى والمجوسى والكافر والملحد، ولولا الحب ما استمر البشر فى الحياة الدنيا.