حتى لا يكون الجمال بضاعة أهل القبح
هل تتذكر عزيزي القارئ ما حدث منذ عامين، عندما استغاثت "إسراء جمال"، إحدى طالبات الفرقة الرابعة بكلية تربية نوعية جامعة عين شمس والعضوة بفريق مبادرة "معًا لنرتقى" الذين قاموا بتجميل الحوائط والشوارع بالفن التشكيلى فى حى العباسية بمحافظة القاهرة، تتحدث بإحباط إلى "صدى البلد" قائلة إنهم فوجئوا بمسح كل الجداريات التى قاموا برسمها من قبَل الحى دون الرجوع إليهم أو إخبارهم بذلك، وأضافت قائلة: قام الحى بمسح كل أعمالنا رغم موافقة الحى على ذلك والاتفاق مع الكلية بالعمل من خلال الدكتورة نهى عبدالعزيز أستاذة رسم وتصوير بالكلية، مشيرة إلى أنهم قاموا بالتجميل والرسم على حوائط ميدان العباسية والكبارى والأعمدة وذلك بموافقة الحى، وقالت إننا بدأنا الرسم وظللنا 3 أشهر، وكنا نحو 150 طالبًا، واستطعنا تجميل الحى برسومات رائعة وفن تشكيلى عالى الجودة.
واشتكت: "مسحوا تعبنا من غير ما حد يبلغنا"، وأكدت إسراء أنهم قاموا بتلك الرسومات على نفقة الحى، فقد كان يمدهم بأدوات الرسم، مشيرة إلى أن أعضاء الفريق تعبوا كثيرًا لإنجاز تلك المهمة وتجميل المكان بكل ما فى وسعهم، خاصة أنه كانت هناك بعض الأماكن المرتفعة التى كانوا يواجهون فيها صعوبة وكانوا معرضين للإصابات، ورغم ذلك استطاعوا إنهاءها بأفضل ما يمكن، وأشارت إلى أنهم فوجئوا بموظفى الحى يزيلون الرسومات والأعمال، لافتة إلى أنهم عانوا من سوء نظافة المكان ورائحته الكريهة، ورغم ذلك استطاعوا تغييره بأفضل نتيجة.
وعلى العكس من تفاصيل ذلك الحدث، ومنذ شهور قليلة، نتذكر كيف رحب التليفزيون المصري على هواء برنامج شهير بتجربة مماثلة في إحدى المحافظات، قيل إن معلمي التربية الفنية هم الذين أداروا مجموعة عمل من الشباب (وأشك في الواقع نسبة هذا العمل لأي مواطن له علاقة بأي درجة من درجات التذوق الفني).. من الواضح وعبر استعراض البرنامج التليفزيوني أن الأعمال قام بها خطاط إعلانات الشوارع بشكل غاية في القبح واختيار أشكال وألوان قادرة ببراعة على تشويه ميادين وشوارع كان الاكتفاء بتجديد طلائها أفضل كثيرًا من ارتكاب ذلك الفعل المشين.
المؤسف أن مقدمي ذلك البرنامج قدموا ذلك الإنجاز البشع بسعادة غامرة وتنافس المذيع والمذيعة في إطلاق عبارات الإطراء والإشادة بدرجة الإبداع والوطنية التي تميز بها أصحاب ذلك المشروع القبيح!
والأغرب والأكثر مفاجأة أن يطالبا بضرورة تكريم أفراد ذلك الفريق، فيتم الرد عليهم أنه بالفعل تم تكريمهم من قبل الجهات المحلية المسئولية، وأنه تم تكليف فريق العمل بالتوسع ونشر إبداعاتهم في معظم أحياء وشوارع المحافظة، ويناشد البرنامج كل المحافظين للاستفادة من نتائج تلك التجربة الإبداعية وتعميم ممارسات شبيهة باعتبار أن ما قدم يمثل خطوة هائلة لدعم القيم الجمالية على أرض مصر المحروسة!
أمر محزن بحق أن نرى تلك الدرجة من تدني حالة الذوق العام لدى بعض شباب الإعلام، وأن نرى بعض المحليات تزيل ملامح الجمال بتلطيخها بطبقات أسمنية، والبعض منها يشرف على نشر القبح في الشوارع، ويكفي تتابع أخبار ونشر مقالات استغاثات لرفع تماثيل بشعة تتوسط الميادين.. يكفي أن نرى تمثالًا للبطل العظيم عبدالمنعم رياض بهذا الحجم الصغير والبدن الضعيف والنظرة المسكينة إلى أسفل وسط ميدان هو الأكبر في القاهرة الذي كان يسمح بوجود تمثال عملاق في ميدان احتشد فيه الملايين في وداع الشهيد والقائد العظيم!
تحدث تلك الكوارث في ظل وجود رئيس مصري ينشد الجمال ويعمل ليل نهار لتغيير كل ملامح القبح بداية من التعامل الرائع مع العشوائيات والمناطق التراثية، ووصولًا لبناء عاصمة جديدة يقدم من خلالها النموذج الأروع لدعم كل القيم الجمالية المعاصرة.
ومن بدايات عمل الرئيس عبدالفتاح السيسي، فقد وجه وزارة التنمية المحلية والمحافظات بطلاء واجهات المباني في المحافظات، بدلًا من صورتها الحالية على الطوب الأحمر، وذلك لإضفاء الطابع الجمالي عليها.
للأسف فإن بعض من يحدثوننا بتباكي وحسرة عن انزواء قيم الجمال المحققة للبهجة والسعادة لعموم البشر عبر كل وسائط الميديا، نجدهم وقد تعاملوا مع الفنون والأعمال الإبداعية ومبدعيها عبر تناول سطحي وانطباعي، والغريب أن تتاح لهم مساحات هائلة، وبدلًا من استثمار تلك المساحات للنقد المحترف والموضوعي وجعلها مساحات للتنوير والتعريف بتاريخ الفنون ومدارسها وبذل الجهد في قراءة جوانب الجمال وإضاءات الإبداع المميزة والإضافات المتحققة لتحقيق طفرات في دنيا الفنون والإبداع، فإذا بنا أمام صفحات وبرامج تصور من يشغلونها أن كل مهامهم الاكتفاء بالحديث التقليدي تحت عنوان «الفنان فلان الذي لا تعرفونه».. وتنساب الحوارات والمقالات بالاكتفاء بتفاصيل السير الذاتية الاجتماعية «على طريقة أين ترعرع سيدي وأكلتك المفضلة وقالوا عنك بخيل وطلقت عشر مرات ليه هه.. إحكيلنا وسلينا».