مثقفون عن اتجاه الشعراء لكتابة الرواية: من يمتلك الإبداع يمكنه التحول من فن إلى آخر بسهولة
شهد العقد الأخير اتجاه عدد كبير من الشعراء إلى كتابة الرواية، حيث صدر عدد كبير من الروايات التي كتبها الشعراء، ومن بينهم: الكاتبة سهير المصادفة، الناقد سيد الوكيل، الشاعر والكاتب المسرحي وليد علاء الدين، الشاعر علي عطا، الشاعر أحمد فضل شبلول، والكاتب نعيم صبري الذي بدأ مسيرته الإبداعية شاعرا وغيرهم الكثير. «الدستور» استطلعت رأي الكتاب في هذه الظاهرة.
ــ سيد الوكيل: الذات المبدعة بطبيعتها واسعة ومتعددة
بداية يحلل الناقد الباحث دكتور سيد الوكيل هذه الظاهرة يقول: «عندما كنا في الثمانينيات نتكلم عن أهمية التجريب في كسر حدود النوع الأدبي بدا كلامنا مروقا وجنونا. صحيح أن بعض التجارب نجحت في تأكيد أمكانية عبور النوع بطرائق عدة وليس بوصفة إدوار الخراط فحسب. لكن الاجتراء على طرق دروب جديدة ظل وحتى الآن محدودا. الفكرة التي ينبغي أن نتأملها جيدا هي أن الذات المبدعة بطبيعتها واسعة ومتعددة. صحيح أننا نستقر عادة عند فن ما يأتي بعد رحلة التطور والنضج ، فالإبداع يمر في مراحل نموه بغويات عديدة أنا مثلا بدأت فنانا تشكيليا ومازالت مهاراتي في الرسم حاضرة ،كما أني مارست التمثيل المسرحي في الجامعة و كتبت الشعر والقصة وقتها. وفي مرحلة متأخرة اتسمت بالنضج اكتفيت بالسرد والنقد».
ويوضح "الوكيل": أما الفكرة التي ينبغي أن نؤمن بها لأنها حقيقة أكدها علم النفس الإبداعي ، أن لا شيء يموت بداخل الذات المبدعة أبدا، فالإبداع طاقة ذاتية وليس حرفة نكتسبها من ورشة كتابة ،أو نتعلمها من أستاذ جامعي. فآلاف الطلاب يتخرجون من أقسام الأدب كل عام ،ولا تجدي بينهم سوى بضع مبدعين.. إذا كان الإبداع طاقة ،فالطاقة لا تفني ولا تستحدث من العدم ،بل تجدد نفسها وتتحول في مسارات مختلفة. سأقول لك سرا.. بعد ثلاثين عاما من التوقف عن الرسم، فكرت أن أهدي حفيدي الذي واكب عيد ميلاده في الخامس عشر من الشهر الماضي صورة له، أرسمها بنفسي. بصراحة كنت خائفا من الفشل، ولكني فوجئت بأن طاقة الإبداع التشكيلي مازالت في انتظاري ، لهذا أفكر مليا في العودة إلى الرسم بعد أن مللت الكتابة.
خلاصة الأمر. إن الشخص الذي يمتلك شغف الإبداع وطاقته، يمكنه أن يتحول من فن إلى آخر بسهولة. لكن هناك عوامل طارئة تدفع المبدع إلى ذلك. فنحن في عصر يتسم بالتفاعلية المعرفية والثقافية والإبداعية. عصر يصفه (زيجموند باومان ) بالسيولة الثقافية. وهو عصر أنتج فنونا جديدة لم نكن نعرفها من قبل ارتبطت بالصورة والتكنولوجيا منها ( الجرافيك، المونتاج، والسرد الرقمي.. إلخ) هذه الفنون الجديدة أزاحت القديمة كونها تحقق انتشارا سريعا وربحا كبيرا عبر ظاهرة الترندات. للأسف.. الشعر هو أقدم فنون العرب ، وهو أول ضحايا هذا الوضع. فلا مشاحة أن يتحول الشاعر إلى روائي، مادمنا نعتبر أنفسنا في زمن الرواية التي أعتقد أنها ستكون ثاني الضحايا من الفنون القديمة.. إنه عصر الصورة بكل فنونها.
ــ سهير المصادفة: الشاعر القادم من حدائق الشعر جاهز بأدواته اللغوية والأسلوبية
تقول الكاتبة سهير المصادفة: الآن أصبحت الرواية ليس في العالم العربي فحسب ولكن أيضًا في الغرب هي الأكثر انتشارًا وإنتاجًا وقراءة، ويطلقون عليها الآن: "كتاب الحياة"، ربما لأن العالم غادر فترة مراهقته وفتوته وشبابه، وأصبح عجوزًا حكيمًا، بعد أن فقد براءته ودهشته وعاطفته المشبوبة، وأصبح يتلعثم في استخدام المجاز، بل بصراحة أكثر بات يجد صعوبة في تقبله. صار العالم العجوز الحكيم يجلس الآنَ خلف حاسوبٍ، ليتابع عبر ذراته الإلكترونية أدق تفاصيل الكرة الأرضية، مقربًا أمام عينيه إحدى الشواطئ المتجمدة في القطب الشمالي، ليشاهد يوميات دبٍّ بنيٍّ صغير ابتداء من لحظة استيقاظه من النوم وحتى لحظة نومه، أو طقوس زواج نوع من الفراشات فوق نبتة نادرة في جنوب أفريقيا، ولم تعد لديه الرغبة أو الحماس، ليقف أمام الحشود قارئًا ألوان هزيمته بصوتٍ منغمٍ. نعم الرواية ابنة الهزيمة، وانسحاق الفرد أمام تعقيد المشاهد وتناسلها إلى درجة مخيفة لا تستطيع محاصرتها آلاف الصفحات، ولكنها في الوقت نفسه الجنس الأدبي الأكثر تسامحًا حيث يمكنها استيعاب كل أشكال الكتابة الأخرى والفنون والعلوم والمعارف مثل: الشعر والأغنيات والفن التشكيلي والموسيقى والتاريخ والجغرافيا وتقريبًا كل شيء، وهي لذلك مدونة الكتابة الآن وكتاب حياتها، ولأن العرب قديمًا قالوا "إن النثر فضَّاح الشعراء"، فالرواية رغم آلاف العناوين التي تصدر مذيلة بتوقيعها تفضح كُتَّابها من غير الشعراء، لأنهم لن يكونوا روائيين جيدين أبدًا، فالشاعر القادم من حدائق الشعر جاهز بأدواته اللغوية والأسلوبية ليكتب رواية فارقة.
وفي النهاية لا أظن أن الجوائز أو الشهرة أو التوزيع سبب هجرة الشعراء أو غيرهم إلى الرواية، فبعضهم وأنا منهم حصدوا الشهرة والمكانة والجوائز من الشعر أيضًا قبل أن يكتبوا الرواية، فديواني الثاني: "فتاة تجرِّب حتفها" فاز بجائزة كبرى عام 1999 قبل أن تفوز روايتي: "لهو الأبالسة" بجائزة أفضل رواية عام 2005.
ــ وليد علاء الدين: حين يقرر الشاعر التحول إلى السرد فهو كالجواهرجي الذي ضنّ بالياقوتة
وبدوره يقول الكاتب وليد علاء الدين: الكتابة بالنسبة لي هي الامتداد المكتوب للتفكير، هي التجلي المادي لانشغالات العقل وتساؤلاته، في وسيط صالح للمشاركة مع الآخرين. والكتابة كما أعرفها، وسيلة وليست غاية: وسيلة تفكير، وسيلة لتوسيع مساحات التساؤل، وسيلة لاستعراض ووصف ما ينشغل به الكاتب أو ما يراه أو ما يعانيه أو ما يخشى منه أو عليه.
والكاتب، بهذا المفهوم، يتوقف عن إبداع جديد عندما يتوقف عن القلق والتأمل والقراءة والتفكير، ويستسلم لليقين، لأنه في هذه الحالة يصبح هو والواعظ والخطيب سواء؛ مجرد شخص يردد محفوظات وحكم حنّطها الشعور باليقين المطلق.
القلق بوصفه المحرك الأول للتفكير، والرغبة في مشاركة حالة التفكير -وليس فقط الأفكار- عبر وسيط صالح للتداول، هذا القلق يجعل الكاتب لا يقف عند حدود نوع أو جنس، لأن لكل جنس أو نوع من أنواع الكتابة مواصفات قادرة على تحقيق بعض حاجات الكاتب أو كلها، والشعر هو الشكل الأكثر تجريدا من كل فنون الكلمة، يأتي مباشرة بعد الموسيقى.
ومن يمتلك القدرة على التجريد يمتلك غالبًا القدرة على التفكيك، والعكس ليس صحيحًا دائمًا . لذا فإن نجاح الشعراء في تفكيك التجريد والتحول إلى السرد عادة يلفت الانتباه -ولا نسمع كثيرا عن روائيين نجحوا في تكثيف واختزال تجاربهم السردية في تجارب شعر لافتة. ومن يقرأ تاريخ الأدب يعرف أن كبار الروائيين في العالم بدأوا بتلك الدفقة المكثفة والقدرة على اختزال العالم بالشعر، ثم تنوعت تجاربهم مع المقالة والقصة والمسرح والرواية، وربما اشتهروا بالسرد أكثر لأن الشعر هو فن النخبة من بين كل فنون الكتابة الأدبية.
وحين يقرر شاعر تفكيكَ كثافة نصوصه والتحول بأفكاره إلى السرد، فهو راغب في توسيع مساحة تساؤلاته، ومغادرة منطقة النخبة الضيقة المحكومة بمعايير ذوق وتلقي عالية، إلى مساحة مشاركة أرحب يمكنه فيها تذويب شاعريته ومزجها بفنون عرض كثيرة.
حين يقرر الشاعر التحول الى السرد فهو كالجواهرجي الذي ضنّ بالياقوتة التي تتلألأ في صدره أن يضمها عقد لم ينظمه بأصابعه، أو أن تحويها علبة لم تصنعها يداه، فعكف على صنع كل شيء بنفسه.
ــ نعيم صبري: زهدت في الشعر وقررت ممارسة الكتابة الدرامية من خلال الرواية
ويقول الكاتب نعيم صبري: فى ديوانى الأول كتبت لنفسى مقدمة قلت فيها إننى لاحظت فى الكثير من قصائدى إنها بين القصيدة والقصة.اتجهت بعدها للمسرح الشعرى وتأكد لدى أننى مهتم بالدراما فى المقام الأول. كتبت مسرحيتين شعريتين إحداهما شعرية موسيقية كالأوبريت مثلا.
لم أنجع فى عرض أيهما بسبب عدم شهرتى كما أبلغتنى مديرة المسرح القومى وقتها بأن قالت لى إنها لا تستطيع أن تغامر باسم غير معروف على خشبة المسرح القومى. كان هذا فى نهاية مطافى على معظم مسارح الدولة.شعرت بالعبث واللا جدوى والزهد فى الشعر والمسرح الشعرى وقررت محاولة ممارسة الكتابة الدرامية من خلال الرواية وتحولت إلى كتابة الرواية. هذا ما كان بالضبط.
ــ علي عطا: ليس شرطا أن مَن تحقَق بالشعر سيتحقق أيضا بالرواية
وبدوره يقول الكاتب علي عطا: السرد عندي، كما الشعر، قائم على التكثيف والإيجاز، ولغة الشعر يصعب التخلص منها، حتى أننا نجدها في نصوص لكتاب لم يعرفوا أبدا على أنهم شعراء، منهم مثلا إبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم وميرال الطحاوي، وقبلهم ومعهم العظيم نجيب محفوظ، خصوصا في "أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة". أقصد هنا اللغة التي تنتج نصا هو ليس بالضرورة قصيدة، ومع ذلك تجد فيه روح الشعر التي تأخذ بتلابيب الوجدان.
وفي اعتقادي، ليس شرطا أن مَن تحقَق بالشعر سيتحقق أيضا بالرواية. لكن غالبا ما يحدث ذلك، والنماذج في هذا الصدد كثيرة، ودائما ما ترتبط بأصحاب المواهب الحقيقية. لكن قلما نجد من بدأ كاتب رواية، ثم كتب شعرا يعوّل عليه، ونشَره. عن نفسي أذكر أن الدكتور جابر عصفور حين كتب مقالا لـ "الأهرام" عن روايتي الأولى، اندهشت وقلت لنفسي: لماذا لم يكتب قبل ذلك عن أي من دواويني. صارحته بذلك، مع أنني لست واثقا من أنه قرأ أيا من هذه الديوان، فقال لي: ربما أنت في الأصل روائي أكثر منك شاعرا، ونصحني بمواصلة الكتابة الروائية. طبعا أتمنى أن أواصل الكتابة، وأنا بالفعل اشتغل على رواية ثالثة. لكني في الوقت نفسه أتمنى أن تتاح لي فرصة إصدار المزيد من دواوين الشعر، ربما انطلاقا من الإيمان بأنني في الأصل شاعر.
وفي الحالين لا أنكر أني اتكأ على سيرتي الذاتية. في دواويني الثلاثة حدث ذلك. وفي روايتي "حافة الكوثر" و"زيارة أخيرة لأم كلثوم"، الواقع المعاش حاضر، خصوصا ما يتعلق منه بوطأة المرض النفسي وارتباطها بالمناخ العام واحباطاته السياسية والاجتماعية، التي أتماس معها بعمق، سواء لكوني مثقفا، أو حتى لكوني أعمل بالصحافة عموما وبالصحافة الثقافية على وجه خاص. وأظن أنني نجحت في الاشتباك مع ما يسميه صديقي الشاعر والكاتب الصحفي المتميز محمد الحمامصي بالتشكيلات الصالحة لخلق عالم روائي، وفي مقدمتها كوارث الإسلام السياسي وتبني نظم حكم في المنطقه لخطابه فعليا، أو التواطؤ معه برغم ما تظهره من خصومة تجاهه وصلت إلى حد المواجهة المسلحة، التي راح ضحيتها كثير من الأبرياء.
ــ أحمد فضل شبلول: الرواية أكثر استجابة للعالم الذي أعيش فيه
ويختتم الشاعر أحمد فضل شبلول: بالنسبة لي الرواية فرضت نفسها علي وهي التي كتبتني، فقد كنت مُثقلا بكثير من العبارات والرؤى والهموم أو العبء النفسي، وجربت أن أكتب ما أود كتابته في قصائد ولم أفلح، وشرعت في كتابته في "مسرحية شعرية" ولم تكن هناك استجابة من قلمي للمسرحية، ولم أفلح، وعندما بدأت أفكر في كتابة ما أود كتابته في شكل روائي يجمع بين السيرة الذاتية والسيرة المتخيلة، وجدت القلم يجري والأفكار تتدفق، والشخصيات تبدأ في الظهور والحوارات تنساب، والفصول تترى، إلى أن انتهيت من كتابة روايتي الأولى "رئيس التحرير .. أهواء السيرة الذاتية" بكل أحداثها وشخوصها وأزمنتها وأمكنتها، فقد تناولت أجزاء وأحداثا من السنوات التي عشتها من يناير 1977 إلى يناير 2011، أو منذ انتفاضة 18 و19 يناير حتى ثورة 25 يناير. وعرفت كيف تُكتب الرواية بطريقة عملية، بعد أن كنت قارئا نهما لها. وعندما وجدت نوعًا من الاستحسان لهذه الرواية، شجعني هذا على كتابة ثلاثية العشق السكندري (الماء العاشق – اللون العاشق – الحجر العاشق).
ووجدت – بالنسبة لي - أن الرواية أكثر استجابة للعالم الذي أعيش فيه، والأفكار التي أود إيصالها، وأنها تحتاج إلى بحث ومراجع ومصادر وفتح ملفات والبحث عن معلومات، وهذا ما يتناسب مع طبيعتي وتكويني، فعملي الأدبي في الموسوعات والمعاجم والتراجم والأبحاث والتدقيق الأدبي واللغوي، كل هذا يتفق ومزاجي في الكتابة، بالإضافة إلى خلق شخصيات والتعامل مع أحداث سواء تاريخية أو بنت اليوم، وغيرها من عوالم واقعية ومتخيلة، قد لا يتطلبها الشعر الذي قد يأتي كدفقة واحدة، أقوم بتمحيصها والشغل عليها حتى يستوي عودها وتصلح كنص شعر طال أو قصر، ولكن الرواية غير هذا، وغير القصة القصيرة أيضا. الرواية لها عالمها الخاص الذي لا يشبه العوالم الأدبية الأخرى.
بل وجدت أن العمل الروائي من الممكن أن يستضيف كل الأنواع الأدبية الأخرى، وهو ضيف كريم جدا، يستطيع أن يهيئ الأجواء الأدبية والإنسانية المناسبة لدخول تلك الأنواع الأدبية الأخرى من شعر وقصة ومشهد مسرحي وأغنية وقطعة موسيقية ولوحة تشكيلية، فضلا عن الحوار والسرد والتجوال النفسي واستحضار أزمنة وأمكنة معنية تساهم في نمو العمل دون أن تكون عبئا عليه.
وكل هذه الاستضافات لا بد لها أن تكون في مكانها وليست عبئًا على العمل بجيث يكون العمل الروائي عملا متماسكا وليس مترهلا. ولهذا كله – وربما لأسباب أخرى لا أعرفها – اتجهت لكتابة الرواية.