رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تبغ وشوكولاتة.. الإدمان المسكن واللذة المرة

 

اختارت صديقتى الكاتبة «زيزيت سالم» كلمتى «تبغ وشوكولاتة» عنوانًا لروايتها الصادرة حديثًا عن دار بتانة، وعندما نجمع بين شيئين فإنه لا بد من وجود شىء من التقارب أو التضاد بينهما، فما الذى يجمع بين التبغ والشوكولاتة فى رواية «زيزيت سالم»؟

يرتبط كل من التبغ والشوكولاتة بقارة أمريكا الجنوبية، أى أن الإنسان لم يعرفهما إلا حديثًا مع عصر الكشوف الجغرافية، وقد استخدم السكان الأصليون نبات التبغ فى الطقوس الدينية وفى العلاج كمسكن لتخفيف الآلام، والشوكولاتة هى ثمرة شجرة الكاكاو، والكلمة مشتقة من اسم مشروب معروف فى حضارة الأزتيك فى أمريكا الجنوبية ويعنى: الماء المر. 

فالتبغ والشوكولاتة ليسا شيئًا أساسيًا فى حياة الإنسان، فقد عاش سنين دون أن يعرفهما، ولكن بعد أن عرفهما اكتشف أنه لا يستطيع الاستغناء عنهما. وهذا ما تبدو عليه شخصيات رواية «تبغ وشوكولاتة»، فهى شخصيات اختبرت الحب فسعدت أو شقيت به، وغيابه عنها يجعلها فى حالة فقد وعدم اتزان، حتى وإن كان الحب إدمانًا مسكنًا أو لذة مرة.. تتنوع شخوص الرواية التى تتسم بكثافة وغنى عالمها كقطعة شوكولاتة لا تمنحك سرها بمجرد تذوقها بطرف اللسان، لكن عليك أن تتأنى وهى تذوب فى فمك فتمنحك سرها كاملًا. 

يبدو مفتتح الرواية مستغلقًا مع اختيار بنية الرسائل كجزء أساسى فى بنية السرد، رسائل متبادلة بين شخصين، تتناثر بطول بنية السرد الروائى؛ لتكشف لنا كلما تعمقنا فى الرواية عن حقيقة العلاقة بين «نادر» و«حبيبة» وإشكالياتها، وتستفيد الكاتبة من التقنيات المعاصرة، وتتماهى مع الحداثة، ممثلة فى صفحات الماسنجر، وما ترتب على هذه الرسائل من تغير الأسلوب، فتعتمد الرسائل على الحوار المتبادل بين الطرفين المتراسلين مباشرة فى التو واللحظة.

إلى جانب الرسائل تعتمد بنية الرواية على تعدد الأصوات، حيث تروى كل شخصية أحداث حياتها الماضية والراهنة، وهى شخصيات متنوعة «نادر، حبيبة، مروة، نهلة، هبة، ...»، وكلها شخصيات تجمعها مرارة الخيبة وفقد الحب، التى تلفظه فى لحظة غضب ولا تصبر على مرارته.. تتمسك الشخصيات بكرامتها وكبريائها، مما يفقدها القدرة على التسامح؛ فتنزلق فى اتخاذ قرارات كثيرة خاطئة، ولا تتراجع عن موقفها، فنادر يتخلى عن حبه لزميلته «منال»، رغم ما قدمت من تضحيات، وما تحملت من انتظار، «حبيبة» ترفض «خالد»؛ لأنه تقدم للزواج منها فى الوقت الذى يستطيع، لا الوقت الذى تريد، ويمنعها كبرياؤها والخوف من شماتة الآخرين من طلب الطلاق من زوج لا تحبه ولا يوجد توافق بينهما «أدركت بعد معاشرتى له أنه كان بخيلًا معى فقط، يخشى أن يصبح بحوزتى مال فأستغنى عنه. تفكير عقيم رسخ داخلى رفضًا له واشمئزازًا». 

وهناك الأب الذى يطرد ابنته عندما تحتاج إليه، ويحرم حفيده من الميراث بعد موت أمه المغضوب عليها، بل ويرفض أن يعيش تحت سقف بيته طوال حياته، حتى «هبة» المتمردة على المسئوليات والقيود تصر على معاقبة من اختارته بإرادتها، «لذا أصرَّت على معاقبته على هذا التصرف، على الرغم من أنه حاول أن يعتذر لها بعد مجىء (طارق) إلى الحياة، لكنها لم تغفر له ذلك أبدًا». 

تحمل الشخصيات فى الرواية روحًا متمردة، لكنه تمرد كامن، وقد يطفو على السطح فى أى لحظة، مما يجعلك تتعاطف مع هذه الشخصيات بمصائرها المركبة من الإحباطات والخيبات، وإن كانت أفعالها وتوقعاتها تبدو غير منطقية وأحيانًا غير مسئولة، هبة الشابة المتمردة، التى تبحث عن المتعة فى الحياة «أنتِ التى لا تعرفين مباهج الدنيا وطعمها، لا بد أن تغامرى وتجربى؛ كى تعرفى أن هناك حياة أجمل من التى تعيشينها»، وهم على استعداد للتمرد دون تحمل تبعاته وثمنه، ويعد «حسام» نموذجًا لذلك..، كان يفكر جديًّا فى الانفصال عن «هبة»، فقد خيبت ظنه، ولم تكن على قدر توقعاته، كان يحلم بزوجة تنظم له حياته، وتمنح البيت دفئًا ونضجًا، وليس بطفلة لا تهتم سوى باللهو والعناد وسلاطة اللسان»، من أين جاءه هذا التوقع وقد تعرف عليها فى ملهى، وتزوجها وسافر معها دون علم أو موافقة أهلها؟! 

لغة الرواية بصوت الرواة بسيطة، مباشرة تؤدى غرضها تمامًا، فى حين تتسم لغة الرسائل بأنها لغة قشيبة، فخمة، ثرية بالدلالات، هذه اللغة تفصل الرسائل عن الواقع رغم وجود تأريخ لها، فهى تبدو كواحة متنفس للحب وللجمال، كشىء مستحيل لا يمكن لمسه أو الوصول إليه، كما الأحلام التى لا يمكن تحقيقها.

هذه الرسائل لم يكن لطرفيها أن يلتقيا فى الواقع، إنهما لا يعرفان عن بعضهما سوى الكلمات التى يكتبها كل منهما للآخر، يتبادلان علاقة أفلاطونية، تخيلية، ليس بها غير الحروف، علاقة ليست من لحم ودم، تفاعلاتها معقمة، وكل مخرجاتها لا تتأثر بالعوامل الكيميائية أو البيولوجية الإنسانية، فكان لا بد جماليًا وفنيًا أن تنهى العلاقة نهاية رومانسية كى تكسبها خلودًا، فيموت نادر فجأة، لتبقى رسائلهما وكلماتهما كائنًا أثيريًا. 

«أنا لا أحبك لأنك تريدين، أو لأننى أريد، أنا أحبك رغمًا عنى، وعنك، أحبك دون تأشيرة، دون مناقشة، ولم أسأل نفسى كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟». 

تحقق رواية «تبغ وشوكولاتة» المتعة لقارئها، وتأخذه لعوالم قريبة منه وأيضًا لمناطق من الرومانسية يفتقدها كثيرًا.