الكتب فى حياتى
كلما تلقيت كتابًا من أديب شاب قفزت إلى ذهنى بدايات القراءة فى حياتى وعلاقتى بالكتب، وأتذكر اليوم الأول الذى دافعت فيه عن كتاب وأنا فى نحو السابعة من عمرى، كان ذلك حين اقتحمت الشرطة عام ١٩٥٤ بيتنا فى العباسية، وراح أحد الضباط يقلب الكتب ثم احتفظ بين يديه بكتاب «صيحات الشعب» من تأليف والدى، فأبديت بادرة احتجاج وصحتُ فيه: «هذا كتابنا»! فجذبتنى أمى للخلف، ونظر إلىّ الضابط ووجدنى طفلًا فى شورت قصير فلم يعرنى أدنى اهتمام.
وحين اعتُقل والدى ذهبنا إلى جدى لنعيش معه فى بيته، وكان بيتًا من طابقين، قصيرًا، يلوح كأنه يوشك على السقوط كل لحظة، ولكنه ينجو فى نفس اللحظة بفضل ابتهالات جدتى واسترحامها السماء.. هناك كانت مكتبة جدى التى حوت عددًا من الكتب أغلبها لعباس العقاد.
كنت أفتح أى كتاب فأرى على الصفحة الأولى منه خط جدى منمقًا: «وكيف أقول ملكى؟» فأسعد بتواضعه وزهده، لكنى ما إن أستكمل القراءة حتى أرى أسفل تلك العبارة كل بيانات جدى الشخصية مسجلة بخط يده، بدءًا من اسمه بالكامل ثم رقم بطاقته وعنوان سكنه ومهنته! أقول لنفسى: فيمَ إذن عبارة «وكيف أقول ملكى» وأنت تثبت بكل ما تستطيع أنه ملكك؟!
تركنا منزل جدى وانتقلنا إلى مسكن مستقل، وهناك ظهرت مكتبة والدى، وبفضلها بدأت القراءة، وكانت أمى تُلزمنى بالنوم مبكرًا، فكنت أشترى شموعًا لأقرأ عليها ليلًا فى الحمام، ومن تلك الكتب كانت أولى كلماتى التى رُحت أخطها على كل باب فى الشقة: «جئت إلى هذا العالم لأختلف معه»، نقلًا عن مكسيم جوركى! وحين لطخت كل الأبواب صرخت فىّ أمى: «خلاص.. كفاية.. عرفنا إنك جئت لتختلف.. اترك الأبواب فى حالها بقى»!!
وعلى مدى عام قرأت بنصف جنيه فقط سورًا كاملًا من الكتب، حين كنت أخرج من المدرسة فأتجه إلى سور فيلا قديمة مجاورة رصّ عليه عم حجازى مختلف الكتب لبيعها، أُعطيه نصف قرش وأجلس على الرصيف أسفل السور أطالع كل ما لديه حتى تحل العتمة ثم أنصرف.
كان الاتفاق بيننا أن أقرأ بنصف قرش قدر ما أستطيع لكن لا آخذ كتابًا لى.. من هذا السور قرأت رواية «ذات الرداء الأبيض» لويلكى كولنز، وأغلب ما نشرته سلسلة «كتابى» لحلمى مراد وأرسين لوبين، وغير ذلك.
وقد عاشت تلك القراءة الأولى لا تغادر قلبى، مثلها مثل الحب الأول، ومضت حياتى كلها تتقاطع مع الكتب ومع أوراقها وأغلفتها، وكانت الكتب علامات فى عمرى أتذكر بها هذا المنعطف أو ذاك، هؤلاء الأصدقاء أو غيرهم، هذه المحبة أو ذلك الغرام، هذا المسكن أو غيره، سنوات بعينها أو أخرى، هذا الاختلاف الفكرى الحاد أو ذاك الاتفاق.
وسوف تبقى الكتب التى تستلهم الحقيقة صديقة أعمار وأحلام البشر، المنشورة منها وغير المنشورة، الظاهرة أو المضمرة، المكسوة بغلاف أو عارية كأطفال الفقراء، التى ولدت والتى ستولد، ستبقى الكتب التى تقودنا إلى الأحلام.