حوار بين جيلين : منى العساسي تحاور فتحي إمبابي
حوار بين جيلين.. فتحي إمبابي: الرواية المصرية هي ديوان الحياة المعاصرة
تستمد كتابة فتحي إمبابي روافدها من ذائقة مرهفة وهوية مصرية متأصلة فى جذورها يكتب عن النهر الذى هو أصل الحياة، قراءة فتحي إمبابي يمكن وصفهم بقراء منفتحين على آفاق الدهشة بفعل ممارسهم لكتابة مشغولة بهموم الوطن.
والقضايا الكبرى تتحول إلى فضاء من البهجة والألم في نفس ذا ت اللحظة البهجة الأولى، والتي لاتزل بانتهاء القراءة، وتظل حاضرة دوما كلما جاء اسم فتحي إمبابي هي بهجة المعرفة بعالمه الروائي وسحر ما يقدمه عبر اجواء اعماله، والالم الذي يظل يحاوط القارئء من كل اتجاه ناتج عن سيطرة شخوصه التى دائما يصادف انك امت القارى واحد منها.
فتحي إمبابي صاحب "شرف الله ، ومراعي القتل، وأقنعة الصحراء، عتبات الجنة، وغيرها، هو صاحب ومشروع ومنجز إبداعي بدء من السبعينيات حتى اللحظة الراهنة
"الدستور" تقتح الحوار بين جيلين؛ جيل الروائي فتحي إمبابي بكل ما حققه من انتصارات وانتشار، وجيل الشباب و وتمثله الكاتبة الروائية منى العساسي والتي تطرح أسئلتها ليجيب عليها صاحبة "عتبات الجنة ".
وإلى نص الحوار..
أعلنت منذ مدة على صفحتك في الفيس بوك عن انتهاءك من أربعة كتب من خماسية النهر، حدثنا عن هذا المشروع الضخم؟
تبلور مشروع (كتاب النيل) / (خماسية النهر)، من خلال الانشغال المتواصل بالكتابة وهموم الوطن معا، وهو مشروع ضخم يضم خمس روايات، بدأته عام (1981) مع رواية نهر السماء والتي نشرت عام 1987. والتي تعد واحد من ذري أعمالي، وهي رواية غير مسبوقة في فن السرد، إذ لم يسبق أن تحول فن الرواية إلى بحث (في وعن) الهوية الإنسانية والجماعية لجماعة ما.
عتبات الجنة هي الرواية الثانية من خماسية النهر وقد نشرت عام 2014 والان انتهيت من كتابة روايتين أسعى لنشرهما وهما (رواية رقص الإبل ورواية عشق) وتبقي الرواية الخامسة والأخيرة، وهي (منازل الروح).
تدور أحداث الخماسية بين الربع الأخير من القرن الثامن عشر، حيث عصر المماليك (عصر العبودية) وحتى نهايات القرن التاسع عشر، وظهور ملامح الدولة الحديثة.
تتشكل ملامح هذا المشروع في جوهره حول هوية كل من الجماعة المصرية والجماعات التي تعيش على ضفاف وادي النيل من المنابع حتى المصب، حيث البطل هو داك الجدل الحادث بين اكتشاف جغرافيا نهر النيل وعالمه البكر، وتاريخ الجماعات البشرية التي تعيش على ضفافه، والحياة الاجتماعية للقبائل والمكونات العرقية والإثنية. والثورات التي دارت على أرضه في ذاك الوقت، ومنها الثورة العرابية والثورة المهدية.
تتناول الروايات الخمسة الصراعات الاجتماعية والثقافية بين مظاهر العبودية في دولة المماليك، والأصولية الدينية في الثورة المهدية، وبين الرغبة الوطنية العارمة في التوجه إلى الحداثة، ممثلا في نتائج الحملة الفرنسية وأحلام محمد على باشا وأحفاده من الجناح الوطني، ومقاومة الإمبراطوريات العظمي لأحلام النهضة المصرية.
ويتمظهر الصراع في أعلى أشكاله وهو فعل الحرب، من خلال سردية الحروب المجهولة والمنسية من تاريخ الحياة الاجتماعية والعسكرية المصرية والسودانية، والمعارك التي خاضها الجيش المصري ضد القبائل المتمردة، وضد الثورة المهدية وعصابات الرقيق في الأبيض وشيكان في وسط السودان، وفي أمادي وريمو في جنوبه.
كيف يخطط الروائي القدير فتحي إمبابي لمشاريعه الكتابية؟
تعد الرواية أحد الفنون الإنسانية الكبرى في العصر الحديث وفي العقود الأخيرة أصبحت الرواية المصرية ديوان الحياة المعاصرة، واللوحة التعبيرية المناسبة لسرد حكايات وآلام وأحلام وطموحات الأنسان المصري، ولهذا لدينا العشرات من كُتاب هذا الفن الإنساني العظيم، والمئات من النصوص الروائية المدهشة. وهو ملمح لا يتوفر في المجتمعات الغربية الآن.
حدد الفيلسوف المجري جورج لوكاتش الإطار العالم لفلسفة الرواية في كونها الملحمة المعبرة عن أزمة الأنسان المعاصر في المجتمع الرأسمالي، وأنا أستطيع القول إنه بالإضافة إلى ما قاله لوكاتش إن الرواية في بلادنا هي الملحمة التي تعبر عن ازمه الأنسان في مجتمعاتنا بما هي عليه من تعقيد مركب، من حيث تخلف العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، والوقوع في كهف استهلاك التطورات التكنولوجية الغربية والعجز عن إنتاجها. ومدي انعكاس ذلك على البني الفوقية.
وتعد حرية الأفراد وقانون المنافسة أحد أهم ملامح الرأسمالية الغربية، بينما (على ما اعتقد) لا يزال قطاعات واسعة من مجتمعنا تعيش في علاقات الإنتاج الريفي، ولا يزال المجتمع يرزح منذ مئات السنين على إجماله في غلال ثقافة العبودية. والمجتمع المصري لم يعرف قيمة الحرية وكرامة الفرد وقيمة المواطن بمفهومها الغربي إلا منذ عقد من الزمان، وأعني ثورة 25 يناير 2011.
هل هناك ثمة فلسفة لفن الرواية؟
فلسفة الرواية المصرية تنبع من طبيعة مجتمعاتنا العريقة القديمة والتي تجمع بين أزمة الأنسان المعاصر وبين بني تخلف وأطر من ثقافة العبودية الراسخة في الوجدان العام، والمعاناة من انعدام الحرية في ظل نظم استبدادية، ومن جهة أخري تعاني مجتمعاتنا من أزمة هوية في ظل مأزقها الناجم عن اكتساح العولمة للبني الثقافية والإنسانية الوطنية وفرض فوضي من المعايير الثقافية الغربية في ظل ثورة الاتصالات والأنترنت، وقمع الهويات الوطنية والقومية للعالم الفقير. وهو ما يرفع على السطح أنماط من روايات تهتم بمواجهة إشكاليات التعرف على الذات وبقضايا المعرفة والبحث في أنثروبولوجيا الثقافة، ومخيلة المستقبل لتناول قضية الهوية، والتي تعني بفهم الذات الفردية والجمعية وأسباب خضوعها وخنوعها ومن ثم الدفاع عنها في مواجهة نوع من العولمة اليمنية المظلمة والمناصرة للتفوق العنصري والعرقي، والتب تفتقد لما هو إنساني.
ولهذا قد لا تنطبق المقولات الغربية النقدية بشكل تام على رواية العالم الثالث، أو على رواية الشعوب ذات الحضارات العريقة فثمة مكونات ثقافية واجتماعية أخري، يبزغ منها أنماط من التناول تتسع للعديد من الكتابات المختلفة والرائعة، (مثل الواقعية السحرية على سبيل المثال) إذا أردنا اكتشاف ذلك فمن الأفضل أن يكون من خلال البحث عن قوانين تتماهي مع أصحاب النمط الأصليين، كما يحق للرواية المصرية أن تجمع في بناها خليط من كافة الأنواع الفنية لما يطلق عليه الحداثة وما بعد الحداثة طبقا لطبيعة المجتمع التي تعبر عنه. وليس من الخطأ الاستعانة بالمنجزات الغربية في علم النقد
قديما كانت المرأة عند المصريين القدماء ربة وإلهة، فكيف تراها في الواقع الحالي؟ وكيف تناولها الأدب المصري؟ حدثنا عن المرأة في حياة فتحي إمبابي على المستويين الأدبي والإنساني؟
دائما ما رأيت نموذج المرأة المصرية في الربة إيزيس، فهي الأبنة والأخت والحبيبة وهي الزوجة المحبة المخلصة لزوجها، وهي الأم الوفية المدافعة عن أبنها في منظومة الاختيار بين الخير في مواجهة الشر، بين العمل والزرع والنماء وبين تصحر الصحراءـ وثمة تمثل كبير في مجتمعنا المصري للمرأة المصرية في أسطورة إيزيس، ولقد نشأت أثناء طفولتي وأيام مراهقتي في أحضان كوكبة رائعة من العمات وزوجات الأعمام وخالات أفاضوا وأغدقوا عليِّ بحب وتقدير لا حدود له، وكانت أمي بينهم مثال للتضحية والوفاء، أحبها جميع أفراد العائلة وقريتنا لدرجة القداسة، ومررت بقصص حب وعشق لا تزال تعيش ذكراها معي حتى الآن، ولأن الأمور الطيبة لا تبقي على حالها تغير الواقع بصورة كبيرة فيما بعد، وابتليت بعداء مفرط من أقرب النساء المحيطة بي، حاولت دائما ألا ارتكب أخطاء جسيمة، وانسحبت قدر الإمكان من العالم واتخذت من الوحدة رفيقا لي، عاونني في ذلك صديقات وأصدقاء من طراز رفيع.
على المستوي الأدبي تعد المرأة محور العمل الإبداعي، وهي طاقة الخير والجمال، وطاقة الشر. فأثناء كتابتي رواية نهر السماء عشت في حيرة حتى أني شككت في قدراتي كروائي إلى اللحظة التي ظهرت فيها شخصية بدرية من العدم وهي نتاج علاقة غير الشرعية بين (صديقة) وبين الشيخ السنهوري، منذ هذه اللحظة أصبحت نهر السماء حقيقة واقعة، شخصية مريم في رواية العرس، وثريا وسالمين في رواية العلم، وسلمي ونورية في مراعي القتل، وروح القمر وأخواتها وفرانسوا في عتبات الجنة، وأخيرا مسك الجنة وست النفر في روايتي رقص الإبل وعشق كلهن تعبيرا عن الحضور الحي للمرأة في حياتي، المرأة هي الكائن الاسمي والأجمل والأرقي، وهي صورة فريدة للملاك وللشيطان في الحياة الواقعية،
وكي لا تضيع بوصلة الحياة أمام هذا الكائن المعقد دعيني أعود إلى الحقيقة الكبرى لخلاصة حياتي وهي أن (الحب والوفاء) كلاهما هم الأعظم قيمة في الحياة، تستطيع أن تحمينا على المستوى الشخصي والعام من عصور الرعب التي نحن مقبلين عليها. والترويج لغير ذلك هو تدمير مقصود أو غير مقصود لمجتمعاتنا الهشة.
منذ حصل محفوظ على نوبل والأدب المصري خارج المنافسة العالمية.. فماذا ينقص الأدب المصري للحصول على نوبل بعد محفوظ؟
الأسباب كثيرة بعضها عالمي، وبعضها داخلي، مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، لم تعد المؤسسات الثقافية العالمية في حاجة للحياد، وكشفت عن توحشها وانحيازها لليمين المتطرف العالمي، فضلا عن تعاطفها مع إسرائيل، حتى أصبح المرور من البوابة الإسرائيلية أحد شروط الحصول على نوبل.
وفي رأي الخاص أن اليمين العالمي ينتقم من الأدوار الإنسانية العظمي التي لعبتها رواية القرن الثامن عشر والتاسع عشر في الكشف عن الجوانب السلبية للنظام الرأسمالي، أما ومنذ مطلع القرن العشرين ساهمت الرواية في تبني شباب العالم للفكر اليساري والاشتراكي كم خلال صعود حركة التحرر الوطني، وفي أمريكا اللاتينية سددت الرواية ضربات مؤلمة لتحالف الديكتاتوريات العسكرية والكنيسة والولايات المتحدة الأمريكية.
على المستوى الداخلي جري خلق مفاهيم مغلوطة مثل تقديس الموتى وتجاهل الأحياء، وكان مفهوم الأجيال الذي يضع الموهوبين في خانات ضيقة مثل القول بجيل السبعينات والتسعينيات إلخ.. ، تقلل من قيمتهم وتحد من نفردهم وتميزهم، من جهة أخري وضع في مفاصل البني الثقافة والإعلامية (أرباع) الموهوبين على مفاتيح الإبداع، هؤلاء هم ألد أعداء الإبداع الحقيقي. لهذا لا يبدو إننا على أعتاب نوبل جديد قبل تغير الظروف العالمية وتتحسن الأوضاع الداخلية.
يعتبر فتحي إمبابي أحد أهم من تناولوا الهوية المصرية بتعمق في نصوصه، فهل تستطيع إن تشرح لنا حقيقة الانقسام والعنف الذي يتعرض لهم المجتمع المصري بعد صعود المد الديني في نهاية الثمانيات وحتى الآن؟
دعيني أقول لك أن الهوية المصرية الجامعة تتضمن عدد من الهويات المضمرة؛ الهوية المسيحية والعربية والإسلامية والهوية الحداثية الغربية، تضم تلك الهويات الأربعة هوية جامعة هي الهوية التي وهبها نهر النيل العظيم لمصر، وتلقي هذه الهوية الجامعة بظلالها ونفوذها الحاكم على آليات تطور الهويات المضمرة الأخرى، وهي تحمي وتحافظ على وحدة الجماعة المصرية.
ودائما ما يستخدم الغرب أحدي هذه الهويات في مواجهة الهويات الأخرى، فهو يشج المد القومي لتدمير الإمبراطورية العثمانية كما حدث في 1917 في الثورة العربية التي قادها من مكة رجل المخابرات البريطاني لورانس العرب، وكانت إنجلترا وفرنسا قد عقدت بالفعل اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 السرية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بينهما، وفي سبعينات القرن الماضي تبنت المخابرات الدولية الأيدولوجية الإسلامية المتشددة في أفغانستان من خلال تنظيم القاعدة. وبعد أربعين عام تبني الغرب جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة على حلم الحرية العظيم للشعب المصري في 25 يناير 2011 لتشكيل دول سنية في المنطقة العربية تخوض عن الغرب نزاعاته ضد شيعية إيران والنمو المتعاظم لروسيا والصين.
لعبة الكراسي الموسيقة تلك تعلمتها السلطة السياسية من سياسيات الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، فقد استخدم عبد الناصر الهوية العربية القومية في مواجهة الهويات الدينية والليبرالية، واستخدم السادات الهوية الدينية وأخرج الجماعات الدينية من القمقم في مواجهة الهويات المسيحية واليسارية، فاغتالته أثناء احتفاله بنصره في حرب أكتوبر عام 1881، في التسعينات استعانت السلطة بكلا من الهوية الليبرالية والمسيحية وبقايا اليسار الرسمي في مواجهة الهوية الدينية المتفاقمة تحت عنوان ما يسمي بسياسية التنوير.
إنها لعبة الكراسي الموسيقية، وكي ينتهي المجتمع المصري من تلك الحلقة المفرغة التي تمزقه ينبغي عمل مصالحة كلية بين تلك الهويات المضمرة، في أطار المصالح العامة الوطنية والقومية، وكي تنجح تلك المصالحة يتعين إعمال العقل، وعصرنة الدين المسيحي والإسلامي وإعمال فقه الاجتهاد، وفصل الدين عن الدولة وتطوير التعليم المصري ولن ينجح ذلك إلا بعد أنجاز تطورات اقتصادية حاسمة وإنجاز ديمقراطية حقيقية واحترام لحرية المواطن وكرامته
في ظل متابعتك للمشهد الثقافي الحالي، كيف تصفه؟
المشهد الثقافي المصري والعربي مشهد معقد يطول الحديث فيه، ولكن باختصار تتشكل البنية التحتية للثقافة من ثلاث مؤسسات؛ الأولي هو مدي التقدم والتطور أو التخلف الذي بلغته المؤسسات التعليمية في كافة المراحل، وضرورة أن يضارع التعليم البلاد المتقدمة، ومدي احترام مجانية التعليم (دون هذا السرطان المدعو بالدروس الخصوصية)، وأن يكون التعليم المجاني العالي الجودة حق لكل طفل ومراهق وشاب. أن ارتفاع مستوي التعليم يرفع بالضرورة من ذائقة القارئ ويمكنه من ألا يكون ضحية للفنون والآداب الرديئة والركيكة.
المؤسسة الثانية هي المؤسسات الإعلامية وفنون الدراما من حيث كونها معبرة عن كافة القوي الاجتماعية، الأثرياء والفقراء، اليسار واليمين، وإيمانها بجودة المحتوي الإعلامي والدرامي وأهمية وضع الفنون الراقية والجيدة على خرائطها بجوار الفن الرديء. من أهم الأمور الجوهرية التي تشكل العقل العام.
المؤسسة الثالثة هي السلطة الثقافية، والتي تضعها تحديات التنمية والتطور وصناعة مجتمع الرفاهية كي يكون انتمائها الجذري لتنمية ثقافة الشعب ورفع الذوق العام، وبهذا تعد مساحة الحرية والاستقلال اللذان تملكها بحوار سلطة الدولة أمرا ضروريا في حماية وتألق الضمير العام، ومن ثم حيوية الأمة...
بعد هذه المقدمة نستطيع أن نتحدث عن برنامج ثقافي تعد الحرية أهم ملامحه، والحياد أمام الاتجاهات الفنية المختلفة والارتقاء بالمستويات الثقافية والإبداعية للمجتمع بصورة عامة أهم أهدافه.
على المستوي الإبداعي المباشر تميل سلطة الثقافية إلى عبادة الموتى، والتقليل من شأن مبدعيها من الشباب والأجيال المتوسطة، وهي تميل إلى الاهتمام بالعائد المعنوي والمادي والذاتي لممثليها، أكثر من اهتمامها بالمبدعين أنفسهم، وهذه صورة ينبغي أن تتغير، ينبغي أن توضع العربة أمام الحصان، ومن ثم ينبغي توقير المبدعين قبل الموظفين.