في ذكرى الريحاني.. ماذا قال بديع خيري في مقدمة مذكراته عن «الضاحك الباكى»؟
بعد رحيل الفنان الكبير نجيب الريحاني- الذي تحل اليوم 8 يونيو ذكراه- بعشر سنوات أعادت دار الهلال إصدار مذكراته التى كتبها بقلمه واختار صديقه بديع خيري لتقديمها، فقال الأخير عن خله: "والصورة الأولى أن الريحاني لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل.. بل كان فيلسوفا وفنانا.. فنانا أصيلا عاش لفنه فقط، ولقي الاضطهاد والحرمان وشظف العيش في سبيل مثله العليا. كان الريحاني يمكن أن ينشأ موظفا ناجحا، وكان أهله يعملون لهذه الغاية. ولكن حب التمثيل كان يجري في دمه، فكان كل ما يكسبه من وظيفته ينفقه في إشباع هوايته، ثم دفعته هذه الهواية إلى هجر الوظيفة، مما أثار استياء أهله. وعانى في سبيل تحقيق حلمه التشريد والجوع والحرمان، وكان من فرط حبه لفنه يلجأ إلى الوظيفة كلما أعيته الحيل، ليجمع بعض المال الذي يتيح له العودة إلى التمثيل، ولقد كافح الريحاني وجاهد حتى انتصر".
ويضيف بديع خيري في تقديمه لمذكرات الريحاني: "كثيرا ما كان تمثيله الرائع يسيطر على مشاعري، فإذا حاولت أن أبدي له إعجابي بتفوقه، نهاني عن ذلك، وشبه نفسه بالعابد القانت، الذي يسعى إلى التقرب إلى لله دون أن يراه. وكان من رأيه أن الممثل الأصيل لابد أن يسعى إلى الكمال المطلق، ويظل يسعى طوال حياته للوصول إلى هذا الكمال، دون أن يراه أو يصل إليه!
يواصل «بديع» حديثه عن فنان الشعب: "ولقد كان نجيب يقدس فنه ويحترمه، وكان يكره الاتجاه الذي كان سائدا في تلك الأيام، والذي يدفع الممثل إلى تعاطي الخمر أو المكيفات قبل الصعود إلى خشبة المسرح، على زعم أن الخمر تشجع الممثل على مواجهة الجماهير وتقوي أداءه. ولم يحدث في حياة الريحاني أن شرب كأسا من الخمر قبل التمثيل، وكان من فرط احترامه لفنه يعتكف في غرفته بالمسرح قبيل التمثيل بنصف ساعة على الأقل، ولا يسمح لإنسان- مهما كانت الظروف- أن يعكر عليه عزلته المقدسة. وفي عزلته هذه كان ينفرد بنفسه ليهيئها لمواجهة الجماهير، ويتقمص الشخصية التي سيمثلها، ويندمج في الدور الذي سيؤديه، وكنت إذا رأيته وهو يغادر غرفته الخاصة في طريقه إلى المسرح لأداء دوره، خلته من فرط الانفعال شخصا آخر. والواقع أنه يكون في تلك اللحظة شخصا آخر فعلا: يكون الشخصية التي سيؤدي دورها في مسرحيته. وقد بلغ من حب الريحاني لفنه أنه لم يطق اعتزال المسرح بناء على مشورة الأطباء عام ١٩٤٢، وكان الدكتور روزات قد نصحه بالابتعاد عن المسرح ستة أشهر حرصا على صحته، فما كان من الريحاني إلا أن قال: (خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي!".