رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنتونى هوبكنز.. أساطير الحافة والظلال «2-4»

 

يمر الناس فى الحياة بتقلبات مزاجية كبيرة بين الشباب والشيخوخة، فالرجل الذى لم يعد يشعر بثقل العمر، ويعيش منطلقًا فى رحابة العالم الافتراضى بسبب الكورونا، كمتصوف راضٍ بما كان أو سيكون، ويبهر متابعيه على إنستجرام، الذين يزيد عددهم على المليونين ونصف المليون متابع، بملابسه المبهجة بألوانها المشرقة، ورسوماته التى تغطى جدران مرسمه بالصخب والمقطوعات الموسيقية التى يعزفها ويعيش بحيوية شاب فى العشرين- لم يكن هكذا دائمًا.

اتسم هوبكنز فى شبابه بالغضب الشديد، فلم يكن هو الرجل الذى يسحرنا على الشاشة بسيطرته التامة على كل شىء، لكنه كان قادمًا من عالم المدرسة، حيث لم يكن ذكيًا بما يكفى للنجاح فى شىء، ولم يكن التمثيل هوايته الأولى، لكن قدرته على التقليد وإحساسه بامتلاكه غريزة بدائية فى التمثيل، جعلاه يقتنص فرصة المنحة الدراسية، ويلتحق بكلية كارديف للموسيقى والدراما، وبعدها يلتحق بالأكاديمية الملكية، لكن ذلك لم يكسبه ثقة فى نفسه، بل جعله شابًا مغرورًا متعجرفًا يغطى بسلوكه هذا على خوفه وإحساسه بعدم امتلاكه شيئًا.

فأنتونى هوبكنز الممثل المخضرم، الذى يبهرنا بقدرته التمثيلية على دمج الخوف بالغضب، بالاضطراب، بالتشويش، بالعناد فى فيلمه الأخير «الأب»، فى دور يبدو أنه كُتب خصيصًا من أجله، هوبكنز القادر دائمًا على السيطرة على أدواته الفنية، التى يعرف كيف يستخدمها بسهولة وبساطة بما يحقق حالة توحد كاملة مع الشخصية التى يتشرب صفاتها الداخلية والخارجية- لم يكن هكذا فى بداياته، لكنها الأيام القادرة على تحويل الغضب إلى حكمة، تجعلنا متفهمين للضعف الإنسانى، وتكسى الموهوبين قدرة على تجسيد هذه اللحظات المتأرجحة بين الشك واليقين.. وهذا ما نجح فيه هوبكنز كثيرًا بهدوء وبتعبيرات وإشارات قليلة لكنها عميقة.

مرات قليلة قدم فيها أنتونى هوبكنز مشاهد الضعف الإنسانى بصورة حادة، حيث يختلط الضعف بالندم بالتشويش وباللا حيلة، لكنه فعلها من قبل وغيّر مسيرته الطويلة كما فى فيلم نيكسون «١٩٩٥» إخراج «أوليفر ستون»، الذى ترشح عنه هوبكنز للمرة الثانية لجائزة الأوسكار أحسن ممثل عن أداء دور الرئيس الأمريكى المستقيل «ريتشارد نيكسون».

ففى مشهد مناجاة ومراجعة وندم، استمر أكثر من دقيقة على الشاشة، يطلب نيكسون بعد توقيعه الاستقالة من هنرى كيسنجر أن يجلس معه للصلاة فيبدأ فى البكاء والانهيار، وهو يخفى بكفه نصف وجهه من الناحية المجاورة لكيسنجر، التى تعبر عن إحساسه بالمهانة والذل. 

- يا رب.. كيف لبلد أن ينهار هكذا.. بماذا أخطأت؟ لقد فتحت الصين، صنعت السلام مع روسيا، أنهيت الحرب، فعلت ما ظننته الصواب، يا إلهى لماذا يكرهوننى إلى هذا الحد؟ هذا لا يصدق، هذا جنون، آه أمى، أنا آسف، يا رب، أرجوك اغفر لى يا رب، لا أعرف ما العمل، لا أعرف لماذا يحدث هذا لى؟

حركة إخفاء نصف الوجه بأحد الكفين اقتبسها هوبكنز من أدائه لدور أحدب نوتردام، فى فيلم «The Hunch back Of Notre Dame» ١٩٨٢، فى معالجة تليفزيونية لرواية فيكتور هوجو أحدب نوتردام، حيث يخفى الأحدب نصف وجهه خلف أحد الأعمدة، وهو يتحدث مع أزميريلدا الجميلة، حتى لا يخيفها بوجهه القبيح. 

- لقد وقفت خلف العمود حتى لا ترينى، سامحينى أحيانًا أنسى كم أنا قبيح، أنت جميلة جدًا، حتى الآن لم أكن أعرف كم أنا قبيح.

ورغم طبقات الماكياج التى تغطى وجه أنتونى وتجعله مثل حبة بطاطس عفنة، فإنه بعين واحدة، وبدوران جسد مشوه، وبصوت مبهم لكنه قادر على تكثيف المشاعر فى جمل حوارية قليلة، يردد: ماء.. ماء لقد أعطتنى ماء. فندرك أنه يبكى ليس من الجلد والتعذيب ولكن من الفرح والامتنان لأن الغجرية اهتمت به، وعندما ينقذها من المشنقة تسأله: لماذا أنقذتنى؟

فيجيب: أنت منحتينى الماء وقليلًا من الشفقة، أنت وحدك ولا أحد غيرك، لا أحد.

حركة إخفاء نصف الوجه بكفه يقدمها أيضًا فى فيلمه «Howards End» ١٩٩٢، حين يعترف الأرستقراطى المتعجرف هنرى لزوجته بأنه كان على علاقة بمومس منذ عشرة أعوام، وحين يطلب منها مساندته، لأن ابنه مهدد بالسجن وهو لا يدرى ماذا يفعل؟

وللحديث بقية.