بعد «قارئة القطار».. إبراهيم فرغلي: الرواية ليست نقلا للواقع (حوار)
عن الغرابة والتغريب في نحى السرد فيما يخص مشروعه الروائي يصر الكاتب الروائي إبراهيم فرغلي على التفرد في عالمه كليتاً، فيما يخص مسساراته في كتابة القصة والرواية وكذلك الكتابة للفتيان والناشئة، حيث الكتابة تحتجب عن المعيشي بمساحات فنية وتقنية مدهشة، تتجلى عناوين «فرغلي» بالغوص في عمق الأفكار في كتاب الحياة والموت والأوهام وسرمدية الوجود، عن ما يفتت عصابية النوستالجيا المؤبدة وهي التيمة الفارقة في مسيرة الروائي إبراهيم فرغلي الذي راهن على مستقبل القراءة وجدواها وحيرة القارىء مع المعرفة من قبل «قارئة القطار» كان الحوار مع الكاتب الذي هشم مكبلات الغربة بالسرد العفي، الموغل في التأوييل، بعيدا عن كتاب الأوهام وقريبا من «مقهى المصابيح المعتمة» الروائي والقاص الكاتب إبراهيم فرغلي المولود في العام السابع والستين والحاصل على جائزتين من مؤسسة «ساويرس» عن روايتيه «أبناء الجبلاوي ومعبد أنامل الحرير» الذي يكتب للفتيان والناشئة حتى وصلت أحد عناوينه للقائمة الطويلة لجائزتي «البوكر والشيخ زايد» وقدم أكثر من ثلاثة عشر عملا مابين الرواية والقصة وعناوين للأطفال منها، «باتجاه المآقي وكهف الفراشات وابتسامات القديسين وجنية في قارورة وجزيرة الورد»، والعديد من الأعمال التي تصبوا لثمة مشروع تأسيسي، روائي، يتأرجح بالزمن بمخاتلة، مابين الكشف وحجب البلاغة والترميز وتعدد الرمز والدلالة عن الكتابة والسفر والجوائز والنقد والمشهد الكتابي، وروايته الأخيرة «قارئة القطار» سألت الكاتب إبراهيم فرغلي.
- عن الاجتماعي والتاريخي والمعيشي في قارئة القطار، كيف ترى التاريخ الشخصاني وجدوى مرور الزمن فيما يخص منطلقاتك الفكرية أو تلك المحفزة لسردك المغاير والملغز في قارئة القطار؟
النص كما هو واضح لمن يقرأه رمزي، بمعنى أنه ثمة مستويات يمكن قراءته بها، والمستوى الأول مستوى الحكاية نفسها، شخص يلحق بقطار ويفاجأ بفقدان ذاكرته، ثم يتعرف على شخصية غريبة الأطوار تقول أنها تقرأ لكي ينطلق القطار بلا توقف، ويلتقي شخصيات عديدة في القطار على أمل أن يساعده أحد على استعادة ذاكرته، وبعدما يفقد صوابه تحكي له قارئة القطار حكاية تقول له أنها تاريخه الشخصي، ويمكن للقاريء أن يؤول هذه الحكاية كيف يشاء، لكن بشكل عام العالمان اللذان يمثلان الرواية يعبران عن فقدان الذاكرة باعتباره فقدان للهوية، وهي الأزمة التي رأيناها بعد ثورة يناير حيث تحول الأمر من البحث عن الحرية إلى أزمة هوية وإصرار لجماعات متشددة وعنصرية على تضليل الناس واعتبار أن شعارات الإسلام السياسي هي الحل.
- عن رجرجة الزمن ما بين الماض والآني، ليتك تحدثنا عن جدوى رحلة الذاتي أو الوجودي الإنساني والمعيشي فيما يخص هذه الرحلة السرمدية لمحمود الوهم؟
تروي القارئة للبطل الذي ستقول له أن اسمه هو محمود الوهم، حكاية ماضيه والذي يفترض أنه حين يخرج من القطار سيرى امتدادا لشخصيته كما أوحت بها حكاية زرقاء القطار كما يسميها، لكن كانت لديه شكوك رغم ذلك، وحكاية السيدة له تقول أنه يعيش في زمن الثورة العرابية، وما قصدته أن استعادة الهوية أو التعرف على الهوية الحقيقية يقتضي إعادة قراءة وتأمل تاريخنا، وتخليصه من الأوهام ومن الكلاشيهات، وهناك مثلا إجماع على أن الثورة المدنية التي قامت بها مصر من أجل الحداثة هي ثورة 1919، وبالتالي ففي هذا الافتراض ولو بشكل ضمني اعتبار أن ثورة عرابي لم تكن مؤثرة، والبعض يرى أنها أدت إلى احتلال مصر في النهاية، ورأيي، وهو مستند إلى قراءات ليوميات عرابي من جهة، وكتابات المؤرخ العظيم الراحل صلاح عيسى، أن الثورة العرابية ظلمت، عدة مرات لأن عرابي هو الأب الروحي لكل الشخصيات الوطنية ورموز ثورة 1919، ولأنه بالفعل كان رمزا وطنيا لأول مصري يؤكد حق المصريين في المناصب العليا في الجيش الوطني، وأول من يتحدى السلطة الخديوية بتأكيد أن المصريين أحرار وليسوا عبيدا. ودفع ثمنا باهظا أيضا.
- سردت في براعة تلك الخلخلة المرتبطة بالحنين بمخاتلات مدهشة ما بين غوص بطلك المغترب ما بين كتابي الأحلام والأوهام، فكيف ترى الخلاص الجمعي لقارئ قطار ك في الواقعي؟
الرواية عموما بالنسبة لي ووفق فهمي ليست نقلا للواقع، حتى لو تبنت الاتجاه الواقعي، تقديري أن الأدب يحتمل أن يتم تناول الواقع بشكل فني قد يجعله قريبا من الحلم، لأن الرواية في النهاية وسيلة فنية لفهم الذات البشرية والتاريخ والواقع. وهذا أيضا يحتاج لاستلهام وسائل أخرى للفهم مثل اللاوعي والحلم والرؤى. ما يعرفه الفرد أو يدركه خاضع لقدراته على الإدراك، والحقيقة أن الإنسان مقيد بحدود مداركه وحواسه، ولكنها في النهاية لها حدود. هذا الافتراض يجعلني أدرك أن كثيرا مما تنبني عليه السلوكيات البشرية تخضع لحدس أو وهم أو ضلالة، يفسرها هو أو يقوم بتأويلها وفق هذا الإدراك. وتأمل مثلا حالات سوء الفهم المتبادل بين البشر، أو اتخاذ الناس لقرارات غريبة في حياتها، إلخ. هذا كله مبني على سوء فهم، على تأويل منافي للوقائع، لاختلافات ثقافية، أو لضلالات. نحتاج للتمسك بهذا الفهم بحيث نتمكن من إعادة تأمل ذواتنا بصدق بدون أي أوهام عن أنفسنا أو عن الآخرين.
- الرواية تحرك الساكن والمسكون عن الزمن والاغتراب والسفر والتاريخ والعزلة، هل لاغترابك المكاني دورا ما في صهرك لتلك الأفكار الفلسفية؟
ربما، للاغتراب دور، وربما أيضا هو طبيعة شخصية تميل للعزلة، أنا أقول أنني صديق نفسي، أستطيع أن أعيش منفردا، أحب في السفر مثلا أن أكون وحدي تماما، لأن هذا يمنحني القدرة على تأمل التفاصيل والعالم من حولي بشكل أفضل من وجودي في صحبة أحد أنشغل به أكثر من المكان. الوجود بين الناس لا يعني أنك لست مغتربا، أو منعزلا، أحيانا في وجودك بين عالم لا تشعر بالانسجام معه، حتى لو كنت تنتمي إلى أفراده هو نوع من العزلة تفوق عزلة الفرد مع نفسه. ستجد ربما هذا الشخص موجودا في أعمالي بشكل ما. في كهف الفراشات، وقارئة القطار، وربما في نماذج أخرى تتسلل في أعمالي الأخرى.
- منذ بداياتك مع السرد والكتابة الروائية قبل عقدين من الزمن، نجد على الدوام ثمة صرعة للزمن وسطوته وتهشيمك للمكان فهل للخوف أو الموت أو عزلة اكاتب دورا في تقطير هذه المسارات الكتابية؟
حين امتلكت الشجاعة لكتابة روايتي الأولى، كان الحل الذي وجدته لخوض غمار الكتابة الأدبية في مجال سبقني إليه كتاب أضافوا الكثير لتاريخ السرد، هو بناء رواية مكونة من عالمين يبدوان منفصلين تماما، أحدهما واقعي مباشر من خلال يوميات فرد مسافر إلى شرم الشيخ في رحلة بحث عن الذات بعد تجربة حب فاشلة، ومسار آخر غرائبي غير واقعي يدور في كهف ما له طابع أسطوري، وحاولت الإيهام بأن هذا المسار الفانتازي هو بشكل ما يمثل لا وعي الراوي في المسار الواقعي. في هذا الاقتراح كان أيضا نوع من تبني شكل من أشكال رواية ما بعد الحداثة، التي ترى العالم ضبابيا ومشوشا ولا يمكن التعبير عنه بالسرد المنسجم المتتابع أفقيا، بل بوصف العالم وفق أفق ما بعد الحداثة، تتداخل الأزمنة، وينتقل الوعي بين المكان الواقعي والمكان الخيالي بالتتابع. ثم أصبحت أراكم في هذه الرؤية في الأعمال اللاحقة.
- تقيم خارج مصر منذ أكثر من خمسة عشر عاما ليتك تحدثنا عن رؤيتك للمشهد الإبداعي العربي والكويتي على وجه التحديد؟
تشهد الكويت منذ عدة سنوات طفرة كبيرة في مستوى الإبداع الأدبي والسردي على يد جيل جديد من الكتاب أصحاب الموهبة والرؤية معا، يقدمون موضوعات سردية جديدة بأدوات سردية وتقنيات حديثة ومختلفة، وتمكنوا من توسيع دائرة مقروئيتهم خارج الكويت، وهي أسماء معروفة جيدا في مصر والعالم العربي اليوم، وكلها أقلام جيدة جدا، وطموحة، وأغلبهم قراء متابعين جيدا للسرد العربي والغربي، وكذلك الأمر في سلطنة عمان التي تشهد فورة لافتة في الرواية، من أجيال عديدة وفي موضوعات متباينة وبينها الرواية التاريخية، وأحب أن أذكر بشكل الكاتبة بشرى خلفان بعد روايتيها اللافتتين الباغ ثم دلشاد، طبعا إضافة لأسماء عديدة مستقرة في المشهد العماني. أعتقد أن المشهد الإبداعي الخليجي الآن في أفضل حالاته، ويبشر بمزيد من التجارب المهمة.
- ماهي طبيعة إيقاعك الإبداعي الكتابي فيما يخص علاقتك بمجايليك في الكتابة وكيف ترى الخارطة الروائية المصرية في السنوات العشر الأخيرة؟
أعتقد أن جيل التسعينات لا يزال الجيل الأكثر إخلاصا للتجريب في الساحة السردية في مصر، وصحيح أن كل كاتب له تجاربه الخاصة لكن ثمة تجارب كثيرة لافتة. لكن أيضا توجد ظواهر جديدة وكتابات أصبحت واسعة الانتشار والمقروئية قد نختلف على قيمتها الأدبية، وبعضها تجارب جيدة جدا، ومؤثرة وتعد إضافة للسرد، لكن حقيقة أشعر في الوقت الراهن أن متابعتي لأغلب هذه التجارب لا تخولني للحديث عنها بشكل جيد في الوقت الراهن.
- عن المشهد النقدي المصري والعربي انطلاقا من ابداعاتك السردية، ليتك تحدثنا عن ايقاعه وجدواه؟
هذا المشهد الوحيد الثابت والمستقر، لا أعتقد أن ثمة حركة نقدية مؤثرة تراكمت خلال العقدين الأخيرين، هناك أقلام نقدية فردية، هناك معالجات نقدية لبعض الأعمال، لكن لا يمكن مقارنتها بالحركة النقدية في زمن مجد الحركة النقدية في مصر بين الستينات والتسعينات. وفي مقابل هذا الفراغ النقدي النسبي ظهرت ظواهر جديدة فرضتها التكنولوجيا الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي من خلال مجموعات قراءة تتميز بوجود أقلام قادرة على تقديم قراءات جادة لأعمال أدبية قد تبدو انطباعية في مجملها، لكنها أيضا تسد فراغا وتعبر عن احتياج من جمهور قراء جديد لا يزال يحاول ان يجد أدواته في القراءة والتأويل.
- مع قراءتي لروايتك الأخيرة شعرت بثمة توحد مع حالات بطلك المنقبض والمسكون بالهواجس دوما وكأنه يأبى الخروج من القطار فهل خلاص الكاتب في المزيد من المعرفة، أم اللاجدوى في الواقعي حدثنا في هذا الأمر؟
لا بد أن يستمر الكاتب على يقين بالمعرفة وباعتبارها الخلاص لأي مجتمع، واليأس من المجتمع أو في زمن الحروب الكبرى لم يمنع كبار المثقفين في عزلتهم من الإبداع والكتابة لأنهم يعرفون أن أي كبوة أو انغلاق أو أزمة سيعقبها جيل جديد سيفتح عينيه على الحياة ولا بد أن يجد معرفة في انتظاره، ليراكم بدوره هذه المعرفة.
- حصلت على جائزتي "ساويرس" عن روايتين، أبناء الجبلاوي ومعبد أنامل الحرير، فما هي رؤيتك لتلك العتبات التي تنطلق من خلالها لجان التحكيم فيما يخص المنح والمنع؟
لقد قتلت شخصيا هذا الأمر قولا وبحثا، حتى يئست، فعلا ومللت حتى من تكرار الكلام حول المناخ العام المحيط بالجوائز.
- عن الكتابة للفتيان وأنت الذي أصدرت عملين في هذا المسار، ليتك تحدثنا عن هذه التجارب الهامة وماذا شكلت وأضافت لمشروعك الإبداعي؟
كنت مهتما بهذه التجربة فعلا وكنت أتمنى أن يكون في كتابة أدب مختلف لهذا العمر امتداد للتجربة، وتعرفت على إمكانات مختلفة في اللغة والخيال، وهو ما حمشني أيضا لكتابة كتابين قصصيين للأطفال أيضا، وحببين في اللعب مع القارئ وبحث وسائل للتشويق وغيره، لكن مع الأسف، لا توجد تجارب نشر مشجعة للاستمرار في هذا المجال بالشكل الذي تمنيته حين بدأت هذه التجربة.