هدرا جرجس: أساتذتي كثيرين أكاد ألا أعرفهم
«حوار بين جيلين».. جار النبي الحلو يسأل هدرا جرجس عن الرواية والكتابة للأطفال
تواصل الدستور سلسلة حلقات حوار بين جيلين، وفي الحلقة السابقة، استضفنا الروائي الكبير جار النبي الحلو ليجيب عن أسئلة هدرا جرجس ممثلا عن جيله، وفي هذه الحلقة يجيب الروائي الشاب هدرا جرجس عن اسئلة الروائي الكبير جار النبي الحلو.
هدرا جرجس واحد من أبرز روائي الأجيال الجديدة، جاء من أقصى نقطة في جنوب مصر "أسوان" معلنا نفسه كاتبا روائيا وهو مازال يدرس الصحافة بجامعة جنوب الوادي، وحصل على جائزة الشارقة عن عمله الروائي الأول ومن ثم توالت أعماله ما بين الرواية والقصة القصيرة ليحصل على جائزة الدولة التشجيعية عن “بالضبط كان يشبه الصورة”، وجائزة ساويرس عن روايته "مواقيت التعري"، إلى جانب شغفه بكتابة القصة والرواية، كما أنه يعد أحد أبرز صحفي مجلة الإذاعة والتليفزيون.
أما جارالنبي الحلو، فهو أحد أبرز الأسماء في المشهد الروائي المصري والعربي ويمكن القول عاش على مدى ما يربو من الـ 50 عاما الكثير من الأحلام والإنكسارات بدءا من مراحل التكوين الأولى وصولا إلى الاحتراف، ولم يتوقف يوما عن الكتابة منذ اللحظة الأولى التى قرر فيها فيها خوض غمار الكتابة والذي يصفها بالرفيقة التي لا تخون.
هل ترى أن جيلكم أخذ فرصته في النشر وتقديم أعمالكم بالشكل اللائق والمستحق؟
في البداية يجب أن نعترف بأن أزمات النشر التي تعرض لها الأدباء في جيلي الستينيات والسبعينيات وما قبلهما أيضاً، لم تجد الحلول الناجزة في التسعينيات وفي الألفية الثانية، حتى وإن بدا الأمر عكس ذلك، فما حدث مع جيلنا بالتحديد يمكن تسميته بـ "فوضى النشر" التي مكنت كل "مدخر صغير" أن ينشر كتاباً يساعده في الانضمام لهذا الجمعية أو لتلك المؤسسة، ومن ثم يوهم نفسه والأخرين بأنه صار كاتباً، وربما السبب الرئيس في ذلك يكمن في ظهور منظومة "النشر الخاص" التي تعد نوعاً رديئاً من التجارة، لأن معيارها الوحيد يتوقف عند عدد الجنيهات التي يمتصها الناشر / التاجر من كتاب موهومين، لكن الزمن أحياناً يتدخل لحل مشكلات مستعصية دون تخطيط من أحد، وهذا ما حدث بالفعل من خلال "الشبكة العنكبوتية" التي استطاعت أن تقلب الموازين لصالح نمط جديد من النشر الحر، وأعتقد أن ذلك شكل جيلاً جديداً يختلف كلياً في الشكل والمضمون عمن سبقه من الأجيال السابقة.
الرواية لديك لها نفس القصة القصيرة والحالة الشعرية.. لماذا؟
الأمر لا يتعلق بحجم الرواية أو عدد كلماتها، فربما تكون ضخمة، ولكن الأمر يتعلق بقدرة الكاتب على خلق "الحالات الشعرية" و"التلخيص" أو بتعبير أدق "الإيجاز"، مع العلم أن هذا الأمر شديد الصعوبة، حتى عند الكتاب الكبار المحترفين، لأن نحت التمثال أسهل بكثير من عملية "الصنفرة" وإزالة الزوائد ووضع اللمسات النهائية عليه، والكاتب الماهر من وجهة نظري هو الذي يعرف جيداً أن "الأدب يشي ولا يصرح".
ألست معي أن العالم الذي يراه الكاتب مختلفاً هو البنية الأساسية في ابداعه.. حدثني عن شغفك برهافة عالمك؟
لابد أن يري الكاتب العالم مختلفاً، وإلا فما حاجته أصلاً لعملية الكتابة؛ نحن نكتب بالأساس لأننا نملك فكرة جديدة عن العالم، والأدق أن نقول: إننا نملك فكرة (متجددة) عن العالم.
والرهافة قد تأتي من السذاجة في الفهم أحياناً، وهذا بصراحة ما اكتشفته في نفسي، وهذا ما جعلني أتوقف عن الكتابة، أنا أتكلم الآن عن حوار (ساذج) قد تجريه مع طفل فتكتشف إنه يفتح لك أفاقاً لا تتخيلها من الحكمة؛ إنها رهافة الإيمان بالإنسان (الخام) التي قد يدفعك الخوض في مستنقع الحياة إلى الكفر بها، فأنا لا أرى هول الحروب مثلاً في الجثث المتناثرة على الرمال، ولي قلب حجري لدرجة تمكنني من القول إني لا يمكن أن أكتب عن ذلك المشهد بأي نوع من أنواع التعاطف، فالقاتل والقتيل كلهما كان يحمل سلاحاً ويتربص بالآخر، والصدفة وحدها هي التي جعلت من هذا قاتل وذاك قتيل، وكان من الممكن أن يحدث العكس في غضون لحظة واحدة فارقة في الزمن.
إن هول الحروب في نظري يتجلى في مشهد لطفل صار يتيماً، لكنه لا يزال يلعب بدميته بجوار خيمة بائسة للاجئين؛ هذه هي "الرهافة القاسية" التي تجعلني أكفر بجدوى الحياة أحياناً.
هل أنتم جيل بلا أساتذة؟
لي أساتذة كثيرين، حتى إني لا أكاد أعرفهم، ولجيلي أيضاً أستاذة على ما أتصور، لكن أساتذتهم ليسوا على شاكلة "شيخ العامود" في الجامع الأزهر قديماً، وأعتقد أن حلقات سلسلة العلم والمعرفة لا تزال ممتدة إلينا منذ العصور السحيقة، ولا يمكن لها أن تنكسر أبداً، وأعتقد أن الأديب "محمد حافظ رجب" عندما أطلق تلك الصيحة في الستينات أو السبعينات، لم يكن يقصد "الأساتذة" لأن الكتاب والمفكرين والفنانين ليسوا نبتاً شيطانياً، ولا يمكن أن يكونوا كذلك، إنما كان يقصد (نحن جيل بلا رعاة) وأرى إنه كان محقاً في ذلك، لأن جيلنا أيضاً يفتقر بدرجة ما إلى تلك الرعاية!.
ما تمثله لك الكتابة، وما طموحك لها ومنها؟
الكتابة تمثل لي الاكتشاف والدهشة، إنها عملية تشبه الغزل والنسج؛ مجموعة من الخيوط الواهية والمظلمة يجري تنسيقها مع بعضها البعض لتتحول إلى بساط أبيض ومنير يمكنه أن يحملك إلى أي مكان وأي زمان، ويمكنه كذلك أن يجعلك ترى نفسك والأخرين من فوق - من الأعلى - بشكل واضح وحقيقي ولا لبس فيه.
أما طموحي من الكتابة فيتمثل في تحقيق متعة ذلك الاكتشاف، ومن ثم مشاركته مع الأخرين، لكني أحرص أن تكون بذوري فيه جيدة، حتى تعطَي ثَمَرًا يَصعَدُ ويَنمو ولا يختنق بالشوك أو تحرقه الشمس سريعاً.
لماذا لم تواصل الكتابة للأطفال؟
رغم تشجيعك لي على الكتابة للطفل، وهو التشجيع الذي أثمر بفضك عن كتاب منشور، لم أجد المهارة الكافية لمواصلة الكتابة للأطفال، وهي نوع من الكتابة يتسم بالصعوبة الشديدة، لأنك تخاطب بها كائنات نقية وشديدة الخيال والذكاء والرهافة، ربما رأيت أني أحسن الكتابة عن تلك الكائنات النقية في بعض رواياتي، لكنها كتابة لا تتعدى حدود مراقبتهم من الخارج، وليس كما تفعل أنت في كتاباتك إليهم، حيث تخاطبهم بمهارة وحنكة أفتقدها؛ لكني أثمن تشجيعك لي للكتابة إليهم، وهو التشجيع الذي أثمر كتاباً منشوراً، وهذا نوع من الأستاذية والرعاية ربما لا نجده لدى الكثيرين من الأدباء في الأجيال السابقة علينا.