«المعاني الروحية للصيام» في لقاء تواصلي للبودشيشة
نظمت مؤسسة الملتقى، لقاء تواصلياً افتراضياً حول "المعاني الروحية للصيام"، شارك فيها كلٌّ من الدكتور منير القادري بودشيش، رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام، والدكتور سمير الحلوي، أستاذ جامعي بالمدرسة الوطنية للإدارة وباحث في التصوف، والدكتور عبد الرزاق تورابي، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، وإبراهيم بنلمقدم، باحث ومؤطر بمركز أجيال للمواكبة والوقاية والتمنيع بالناظور، التابع للرابطة المحمدية للعلماء، بالإضافة إلى خيرة من المادحين المجيدين من داخل المغرب وخارجه.
افتتحت فعاليات هذا السمر الروحي، بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، تلاها المقرئ محمد عبد العال الشيخ من السودان، واستهل بكلمة ترحيبية للدكتور سمير الحلوي، نيابة عن مؤسسة الملتقى، تخللها شكر واعتراف بالجهود المبذولة من طرف رئيس المؤسسة الدكتور منير القادري، وعلى إتاحة الفرصة للتواصل مع المتتبعين في شهر رمضان الفضيل.
وفيما يتعلق بموضوع هذا اللقاء، استعرض الدكتور سمير الحلوي أبرز محاوره الرئيسية المتمثلة في تحديد المقصد الاسمى من عبادة الصيام وتوضيح مقاصد آيات الصيام وبيان معانيها، بالإضافة الى الوقوف على الاشارات والمعاني المستنبطة منها.
وفي كلمته الافتتاحية الاطار، أكَّد الدكتور منير القادري بودشيش، أنَّ هذه الورشة التفاعلية تأتي في أفق ابراز أهمية شهر رمضان المبارك و فوائد الصيام الروحية والاخلاقية، لافتا إلى أن هذا الشهر العظيم يعتبر ملاذا لطاعة الله عز وجل والتقرب إليه، وطلب المغفرة والرحمة والتوبة إليه، مستشهدا بقوله سبحانه وتعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)(سورة الأحزاب الآية71)، وتطرق الى معنى الصوم في التصوف، موردا قول الشيخ فارس البغدادي "هو الغيبة عن رؤية الخلق برؤية الحق جل وعلا"، ولفت الى أن الصوم عند الصوفية هو معراج إلى الحضرة الإلهية، واضاف ان رمضان هو شهر نكران الذات، والتخلي عن كل شي إلا الله ، وزاد أن للصوم عندهم أنواع، كما يرى ذلك الشيخ محمد الكَسْنَزَانْ الحسيني في موسوعته موسوعة الكَسْنَزَانْ "الصوم عن الذنوب، الصوم عن الغيبة، الصوم عن النفاق الصوم عن البهتان، الصوم عن الحسد، الصوم عن النظر الحرام، الصوم عن التجسس، الصوم عن تخريب البلاد.
وتساءل الدكتور القادري عن الرمزية الصوفية لفوائد الصوم ؟ وفي معرض إجابته أورد قول الإمام جعفر الصادق "الصوم يميت مراد النفس وشهوة الطبع، وفيه صفاء القلب وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء وزيادة التضرع والخشوع والبكاء وجُلُّ الالتجاء إلى الله وسبب انكسار الهمة وتخفيف السيئات وتضعيف الحسنات"، و أكد أن حقيقة الصوم صوم بالجوارح والجنان ورقي بالأخلاق وتربية للضمير شهرًا في العام، وان ذلك يورث في القلب معرفة بالله تعالى ومقامه في بقية الأيام.
واختتم مداخلته بالقول "إِنَّ الصِّيَامَ سُلْطَانٌ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَوَارِحِ؛ فَهُوَ يُعْطِي الْعَبْدَ الْإِرَادَةَ وَالْقُوَّةَ فِي ضَبْطِ غَضَبِهِ، وَكَبْحِ حِدَّتِهِ، وَالصَّائِمُ إِذَا لَزِمَ الصَّبْرَ خِلَالَ شَهْرِهِ فَسَيَخْرُجُ مِنْ مَدْرَسَةِ رَمَضَانَ بِنَفْسٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَخُلُقٍ لَيِّنٍ، وَإِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ، يُمَارِسُهَا سُلُوكًا وَيَعِيشُهَا وَاقِعًا ".
فيما حملت مداخلته الثانية باللغة الفرنسية عنوان: "البعد الروحي لشهر رمضان L’aspect spirituelle du mois du ramadan ''.
من جهته، أكد الدكتور عبد الرزاق تورابي، في المداخلة الثانية أن الصيام مدرسة و تجربة روحية سامية، تقربك من الله عز وجل وتشعرك بالراحة والطمأنينة والسلام، يتخرج منها الإنسان تقيا نقيا متحليا بمكارم الاخلاق.
وقال إن شهر رمضان الكريم فرصة للشعور بقيمة الحاجات والظواهر اليومية المحيطة بالإنسان، كما أشار إلى بعض المعاني الروحية للصيام والمتمثلة في التخلق والاتصاف بالصفات الصمدانية لأن الصوم صفة صمدانية من جهة التنزه عن الأكل والشرب والجماع، فهو لله وهو الذي يجزى به و نظرا لأن حقيقة الحق تستلزم التنزه عن التغذي، على عكس حقيقة المخلوق التي تقتضيه (التغذي)، ولما كان للصوم هذه الصفة فقد ترتب على ذلك نسبة الحق تعالى إليه؛ لأن ذاته تعالى لا يجوز عليها ما يجوز على الخلق، وبما يعني أيضا أن في صيام الإنسان تشبها بالخالق سبحانه وتعالى.
وأضاف ان أهم ثمرات الصيام هي تحصيل التقوى، مستدلاً بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، مشيرا الى ان الصيام من أكبر أسباب التقوى، فلا يجدك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وبين أن من أهم مظاهر التقوى في الصيام حبس سائر الجوارح عن اللغو والرفث وسائر المحرمات، وحمل النفس على مراقبة الله والإخلاص في الخلوات، فالصيام ينمي التقوى في قلوب الصائمين لتكون عوناً لهم على الصمود ومقاومة الملذات والشهوات. مردفاً ان من عجيب آيات الصيام أنها ابتدأت بالتقوى واختتمت بها؛ فهي المقصد الرئيس في وصول النفس إلى درجة من الخشية له تعالى، خشية داعية إلى حبه.
كما أبرز أن الله اختصَ لنفسه الصوم من بين سائرِ الأعمال، وذلك لِشرفِهِ عنده، ومحبَّتهِ له، وظهور الإِخلاصِ له سبحانه فيه، لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله، وتابع ان الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام ، فلا يتناولُهُ ؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ.
فيما استرسل إبراهيم بنلمقدم، في المداخلة الثالثة في تقديم شروحات حول الصيام، مبينا ان صيام رمضان ركن عظيم من أركان الإسلام الخمسة فرضه الله على عباده في السنة الثانية من الهجرة.
كما أشار إلى أن الصيام عبادة معروفة قبل بزوغ فجر الإسلام ولها تاريخا قديما إلا أنها اختلفت من أمة إلى أخرى؛ لأنه قيمة روحية عليا يحتاجها الإنسان في كل زمان في رحلته إلى الله تعالى؛ إلى أن ظهر الإسلام ليضع لها أسسا وقوانين، مثلها كمثل العبادات الأخرى حيث أن الإسلام قائم على اساس الوسطية والاعتدال في تشريع العبادات وسن الفرائض، كما أوضح بعد ذلك ان لهذا الشهر الكريم جمال وروحانية ونفحات خاصة، وهو الشهر الوحيد الذي يمنحنا فرصة لإعادة النظر بحياتنا السابقة والتصالح مع الذات، كما اشار ان شهر رمضان الفضيل يعمل على تنمية قيم التسامح والكرم والعطاء وعمل الخير والمحبة والرضا.
وأردف أن التقوى هي الغاية والمقصد من العبادات والثَّمرة المرجوَّة من أدائها، فقد ربط الله تعالى بين الصيام والتقوى كما جاء في الآية الكريمة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، واشار الى ان التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل"، كما بين ذلك سيدنا علي بن أبي طالب رضى الله عنه وارضاه في قولته المشهورة.
كما استطرد أن المراد بقوله: ( وأنا أجزى به ) أن الله تعالى أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته لأن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، بالإضافة الى ان الصوم أحب العبادات الى الله والمقدم عنده. كما اشار الى أن قوله (إلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي) ان الإضافة هنا إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال : بيت الله، وإن كانت البيوت كلها لله، فكان التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف.
كما أوضح المتدخل أن هناك ثلاثة مستويات ودرجات للصيام : صوم العامة ، و صوم الخاصّة ، وصوم خاصّة الخاصّة. فالصيام العامة يعني الامتناع عن الطعام والشراب والجماع، وصيام الخاصة يعني أن يحفظ المرء سمعه وبصره ولسانه ويديه ورجليه، وسائر الجوارح عن الآثام، وصيام خاصّة الخاصّة ، يعني صيام القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ، وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية، واختتم كلمته بالتأكيد على دور التربية الروحية على يد شيخ عارف بالله في استشعار المعاني الروحية للعبادات وخصوصا الصيام.
واختتمت أطوار هذا السمر الروحي بوصلة من السماع والمديح النبوي للمنشد المتألق محمود التهامي من مصر.