رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى إثيوبيا.. برميل متفجر بالأخطار والتعقيدات


الثلاثاء أعلن أبى أحمد، رئيس وزراء الحكومة الفيدرالية بأديس أبابا، عن أن قواته بصدد شن هجوم سمّاه «النهائى الحاسم»، على ضوء انتهاء مهلة الأيام الثلاثة التى لم يعرف أحد متى بدأت ولا أين انتهت؟، لذلك بقى الإطار الإعلامى لهذه «الحرب» الكاملة حتى الآن محصورًا بين تصريحات القادة من الجانبين وبين التعتيم المتعمد والحصار المضروب على إقليم «تيجراى»، فضلًا عن شهادات النازحين من السكان المحليين الذين مثلوا حطب النار التى اشتعلت من حولهم فجأة، لكن ربما المأساة بعد أيام صارت قادرة على الإفصاح عن تفاصيلها، على النحو الذى يمكننا من الاقتراب من الصورة الواقعية لهذا البرميل من البارود، الذى أشعله نظام أبى أحمد دون أن يدرك حجم محفزات الاشتعال التى تحيط به.
رئيس الوزراء الإثيوبى الحائز على جائزة نوبل للسلام كان قد أمر على نحو مفاجئ، بشن حملة عسكرية بعدما اتهم «جبهة تحرير شعب تيجراى» وهى الحركة السياسية الأكبر فى الإقليم، بمهاجمة القوات الفيدرالية فى المنطقة، فيما اتهم رئيس الإقليم حكومة أبى أحمد منذ أسابيع بمحاولة «غزو الإقليم»، بعدما صوت نواب البرلمان الإثيوبى على حل الحكومة المحلية فى إقليم «تيجراى» الاتحادى، وتعيين حكومة محلية جديدة تدين بالولاء لرئيس الوزراء، وقد استند قرار البرلمان إلى بند قانونى يسمح للحكومة الاتحادية بالتدخل فى الأقاليم، التى يرى أنها قامت بانتهاك الدستور وتشكل خطرًا، من وجهة نظرها، على النظام الدستورى.
هذه هى الذريعة المعلنة رسميًا، لكن الواقع قد يبدو بعيدًا عن هذا الخطر الدستورى المزعوم، وهو أقرب لصراع القوميات ويدخل ضمن أجندة وإطار مشروع أبى أحمد فى الحكم، فقومية التيجراى ظلت تهيمن على السلطة فى إثيوبيا منذ الإطاحة بالرئيس منجستو هيلا ميريام عام ١٩٩١، وحتى مجىء أبى أحمد، المنتمى لعرقية «الأورومو» إلى السلطة فى ٢٠١٨، والذى تعهد بإدخال إصلاحات سياسية لم تتشكل بعد على أرض الواقع.
اشتعل التوتر بعدما أجرت إدارة «التيجراى» انتخابات الإقليم فى سبتمبر الماضى، فى خطوة مثلت تحديًا لقرار الحكومة الفيدرالية بتأجيل الانتخابات فى عموم البلاد، على خلفية أزمة تفشى وباء كورونا.
وردًا على ذلك، أمر البرلمان وزارة الخزانة بوقف تمويل الحكومة الإقليمية لتيجراى، وبعد تمرير قرار تمديد ولاية رئيس الوزراء أمام البرلمان الموالى لأبى أحمد، أعلنت «جبهة تحرير شعب تيجراى» عن أنه لم تعد لدى أبى أحمد سلطة نشر الجيش لانتهاء ولايته، ومنعت سلطات الإقليم نشر القادة العسكريين الذين أرسلوا لتولى مسئولية القيادة الشمالية فى «ميكيلى» عاصمة الإقليم، ويقدر عدد أفراد الجيش الفيدرالى بنحو «٢٠٠ ألف جندى»، فى الوقت غير المعلوم فيه بدقة حجم القوات الخاصة بإقليم تيجراى، غير أن حاكم الإقليم «ديبريتسيون غيبرمايكل» زعيم «جبهة تحرير شعب تيجراى»، والذى شغل منصب نائب رئيس الوزراء سابقًا، قبل إبعاده عن الحكومة الوطنية فى أبريل ٢٠١٨- أكد أن قوات الإقليم قادرة على «هزيمة» القوات الفيدرالية. فقد ظلت الجبهة تتمتع بوضع الشريك المهيمن على تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الحاكم سابقًا، كما رفضت بعد ذلك الانضمام لخلفه فى الحكم «حزب الرخاء»، الذى يمثل الظهير السياسى لأبى أحمد.
لذلك يدخل الأخير هذا المعترك مع مجموعة تمرست فى الحكم لعقود، ولديها إلمام بكل إمكانات ومفاصل الإطار الفيدرالى الذى يحركه أبى أحمد اليوم من أديس أبابا، وهو مما يصعب ويعقد الأمر عليه بشكل كبير.
لذلك بدء الصراع بين المركز وإقليم «التيجراى» يشير إلى عدم إمكانية حسمه فى المدى القريب، فهو ليس بالصراع الذى يمكن أن تنهيه هجمات خاطفة، راهن عليها أبى أحمد فى البداية لكنها حملت عنوان فشله الأول، مما صعب فرضية إرغام طرف فيه بأن يذعن لإرادة الطرف الآخر، ومن زاوية أخرى ليس الأمر كذلك حملة تأديبية لمجموعة منشقة ضعيفة الخبرة، حتى ترضخ لإرادة حاكم عام يحاول إرغامها على الكف عن سلوك معين، فالخلاف بينهما أقرب للانشطار الفعلى، الذى يصعب التئامه على جانب من جوانب التسوية.
هذا يدركه بيقين السكان المحليون، الذين سرعان ما وجدوا أنفسهم على شفا فصل طويل من الاحتكام إلى السلاح، فعلى عجل تشكلت موجات النازحين، التى وصلت إلى ٢٥ ألف شخص خلال أيام، دخلوا إلى الأراضى السودانية استباقًا لمجازر متوقعة، وخشية الدمار الذى بدأت بشائره تطال قراهم وأراضيهم.
وقد مثل النزوح الراهن للاجئين الإثيوبيين ضغطًا مفاجئًا على الداخل السودانى، الذى لم يتعافَ بعد من وقع كارثة الفيضانات التى ضربته فى خريف هذا العام ٢٠٢٠، حيث يقف اليوم أمام احتياج عاجل لمساعدات حقيقية من المجتمع الدولى، للوفاء بهذه المهمة الإنسانية لمجموعات اللاجئين المتزايدة على مدار الساعة، فضلًا عن التحصين الأمنى الواجب العمل عليه من داخل السودان، كى يحمى أرجله من الانزلاق فى هذا النزاع، لا سيما أن مثل تلك النزاعات، تجعل عادة، من دول الجوار، محطة انطلاق لأعمال عدائية لكلا الطرفين، كل تجاه الآخر.
هناك طرف آخر قد يبدو الأمر بالنسبة له أخطر كثيرًا من السودان، وهو إريتريا الجارة الشمالية والشرقية لإقليم التيجراى، والتى تعرضت لمجموعة من الصواريخ انطلقت من الإقليم استهدفت مطار العاصمة «أسمرة»، فى تطور سريع ومباغت أربك الداخل الإريترى، وطرح التساؤلات عن حجم إسهام أسمرة فيما يجرى للإقليم، فهناك وسط قيود الاتصالات بإريتريا والتعتيم الإعلامى الصارم من يؤكد أن الجيش الإثيوبى استخدم مطار أسمرة فى طلعات جوية استهدفت التيجراى، وآخرون من المعارضة الإريترية أشاروا إلى أن هناك دلائل عن قيام القوات الإثيوبية بشن هجمات برية على إقليم تيجراى من الأراضى الإريترية، كما جرى استدعاء كبار الضباط الإريتريين المتقاعدين للانضمام إلى تحركات القوات نحو الحدود الجنوبية، بعدما قامت السلطات الإريترية بفرض التجنيد الإجبارى، الذى يجعل احتمالية أن تتحول الحرب إلى صراع أوسع لا يقف عند حد إثيوبيا وإريتريا، إنما يصير امتداده لبقية القوى فى أنحاء القرن الإفريقى منطقيًا ومتوقعًا، على خلفية التوترات العرقية الممتدة داخل أكثر من دولة جوار، والمتصاعدة بما تغذيه الأطراف الخارجية من دعم تسليحى يتجاوز حد الخطر.
لذلك تستشعر القاهرة القلق البالغ إزاء هذا العبث بمعادلة أمن القرن الإفريقى، الذى يمثل أحد فضاءات مجالها الحيوى ودائرة مهمة من دوائر أمن مصر الإقليمى، حيث يظل مهددًا على وقع هذا النوع من الضغط العسكرى والإنسانى، وما يستتبعهما من تعقيدات سياسية وإغاثية وغيرها من الإشكاليات.