رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السد العالى.. اليوبيل الذهبى «1-3»



تحتفل مصر قريبًا باليوبيل الذهبى لافتتاح السد العالى؛ إذ وُضِع حجر الأساس فى عام ١٩٦٠، وتم الافتتاح رسميًا فى يناير ١٩٧١، وربما لا تعرف الأجيال الشابة شيئًا عن قصة السد- أو بالأحرى معركة السد العالى- وفى الوقت نفسه نعتقد أن مصر لا بُد أن تحتفل بهذا اليوبيل الذهبى بشكلٍ مختلف وغير اعتيادى، لا سيما فى خضم المعركة الدبلوماسية الدائرة الآن حول سد النهضة الإثيوبى، وضرورة احترام الحقوق التاريخية لمصر فى مياه نهر النيل.. إذن ما هى قصة السد العالى؟
لا يمكن البدء فى القصة دون الإشارة إلى الرباط المقدس بين مصر ونهر النيل، ولبيان ذلك علينا أن نتخيل خريطة مصر دون نهر النيل.. بالقطع ستتحول مصر إلى امتدادٍ للصحراء الكبرى، أو جزء من صحراء غرب آسيا؛ إذ سيختفى اللون الأخضر من على الخريطة، ليبقى فقط اللون الأصفر، لذلك عُرِف النيل بحق بأنه شريان الحياة.
ربما لذلك السبب أطلق الرحالة والمؤرخ الإغريقى الشهير هيرودوت مقولته الشهيرة: «مصر هبة النيل»، وتفسير ذلك بأنه لولا النيل ما كانت مصر.
لكن يعترض البعض على هذه المقولة التى تُكَرِس الحتمية الجغرافية، وأن الجغرافيا هى صانعة التاريخ؛ إذ يرفض بعض المؤرخين هذه الحتمية، ويرون أنه ربما تكون الجغرافيا هى مسرح التاريخ، لكن الإنسان هو صانع التاريخ.
ولعل أهم هؤلاء المؤرخين المؤرخ الإنجليزى الشهير «توينبى»، صاحب نظرية التحدى والاستجابة، والتى حاول من خلالها تفسير التاريخ فى كتابه المهم «دراسة فى التاريخ»؛ إذ يرى توينبى أن حركة التاريخ ما هى سوى صراع بين التحدى والاستجابة.. تحدى الطبيعة والجغرافيا بالأساس، والشعوب وقدرتها على تقديم استجاباتٍ قوية إزاء تلك التحديات، ولعل قصة مصر والمصريين ونجاحهم فى ترويض نهر النيل، وبناء حضارة كبرى على واديه، هى الاستجابة القوية التى صنعت التاريخ.
والتقـط المؤرخ المصرى الكبير «شفيق غربال»، وهو بالمناسبة تلميذ «توينبى»، هذا الخيط وطوره ووضع ملامح ذلك التطوير فى كتابه الصغير الشهير «تكوين مصر»؛ بداية يرفض غربال المقولة الشهيرة لهيرودوت «مصر هبة النيل»، ويرد عليه بمقولة أخرى أصبحت أيضًا شهيرة: «مصر هبة المصريين»، إذ يتساءل غربال كيف يجرى النيل من الجنوب إلى الشمال عبر آلاف الأميال، ولا تنشأ الحضارة والدولة المركزية إلا فى مصر؟! ويوضح غربال أن النيل كان من الممكن أن يكون نقمة سواء فى عنفوانه وجبروته زمن الفيضانات العارمة، أو حتى فى زمن الشُح المائى وانخفاض منسوب النيل، وبالتالى القضاء على الأخضر واليابس، وعدم الاستقرار والحيلولة دون قيام الحضارة.
من هنا يرى غربال بحق بأنه لا بد من الإشادة بعظمة المصريين وقدرتهم على ترويض النيل وتهذيبه إلى حد بعيد، وبراعة المصرى القديم فى أمور الفلك والرى والزراعة حتى يستطيع الاستقرار على ضفاف النيل وإرساء قواعد الحضارة وتأسيس الدولة المركزية، ومن هنا نشأت العلاقة الحميمة بين الناس والنيل عبر التاريخ؛ لذلك لم يكن غريبًا أن يُعَنوِّن أحد المؤرخين المحدثين، وهو «أمين سامى»، تاريخه العام لمصر بعنوان مهم ودال وهو «تقويم النيل»، ومن هنا بدأت مدرسة الرى المصرية منذ آلاف السنين فى ترويض النيل، بل وتنظيم تدفق مياهه، والتعامل معه كشريان للحياة فى مصر، وهو ما سنتناوله فى المقال المقبل.