رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البوصلة المفقودة فى قضية التنوير بالكنيسة القبطية


قضية التنوير قضية حيوية بالنسبة للمصريين بصفة عامة والأقباط بصفة خاصة، ففى العصور الأولى كان لكنيسة الإسكندرية ومدرستها اللاهوتية الفضل فى ريادة الفكر المسيحى فى العالم كله بسبب غنى روحانيتها ومعارفها التى كانت مُزخرة فى علمائها الأفاضل من أهل العلم والمعرفة وليس من رجال الدين.

من هنا يطالب المُهتمون بالشأن الكنسى بصفة خاصة والشأن المصرى بصفة عامة بضرورة عودة كنيسة الإسكندرية لروحانيتها الحقيقية- وليست الشكلية- ومستواها المعرفى الحضارى، وهذه ضرورة حتمية يحتمها الموقع الريادى لمصر التى ينبغى أن تتبوأ مكانتها مرة أخرى بين الأمم، ولا تنقاد بتبعية عمياء لكنائس أخرى.
ففى مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، كانت تقود العلم فى المدرسة مجموعة من الأكاديميين المتخصصين دون أدنى تدخل من آباء الكنيسة وذلك بغرض تفرغ رجال الدين للعمل الرعوى والسهر والصلاة، بينما يقوم رجال العلم بعملهم الأكاديمى بكل حرية ونشاط دون قيود أو وصاية من أحد.

فلم يكن هناك خلط بين العمل العلمى والعمل الرعوى، فتحقق النجاح للعمل العلمى بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وأيضًا النجاح للخدمات الكنسية الرعوية بفضل الرعاة الحقيقيين الأمناء فى رسالتهم المتفرغين للعمل الرعوى الجاد، فلم يكن بين علماء مدرسة الإسكندرية من يحمل أى رتبة كهنوتية على الإطلاق.
كما أن الرهبنة كانت منفصلة تمامًا عن العمل الرعوى للكنيسة، فكان الشباب أو الشابات عند التحاقهم بالدير يقدمون النذر، وهو ألا يخرجوا من الدير لأى غرض من الأغراض لأنه مبدأ رهبانى وضعه آباء الرهبنة الأولون، ويمكننا أن نتابع خطى هؤلاء الرهبان فى بعض السير الرهبانية، مثل سيرة الأب أغاثون المتوحد الذى تحتفل الكنيسة القبطية بتذكار نياحته فى ٨ بابة «الموافق ١٨ أكتوبر».
فنجد فى سيرته الآتى: الأب أغاثون هو أحد آباء البرية فى القرن الرابع، عاش متغربًا لا يستقر فى موضع، ولا يملك شيئًا قط، استطاع بحكمته الفائقة وتجرده مع محبته ولطفه أن يكون له أثره الفعّال فى حياة الكثيرين من الرهبان، تتلمذ وهو شاب على يدى القديس «بيمين»، فكان الأخير يوقره، حتى إنه إذ كان يتحدث مع بعض المتوحدين فكان يدعوه «أبا أغاثون» فدُهشوا لذلك، ولما سأله الأب يوسف أجاب بـ«أن فمه أكسبه هذا اللقب»، إذ عُرف بالحكمة.
ذهب إلى «الإسقيط» وعاش زمانًا مع تلميذيه، اللذين صارا بعد نياحته تحت إرشاد القديس أرسانيوس، ترك «الإسقيط» ربما بعد هجوم البدو الأول وعاش مع تلميذه إبراهيم بجوار النيل بالقرب من طرة، تعرف على الآباء القديسين «أمون» و«مقاريوس» فى الأيام الأولى من «الإسقيط».
ومع ما اتسم به القديس من حياة نسكية قاسية كان همه الأول منصبًا على حياته الداخلية، خاصة نقاوة قلبه، يحرص على ألا يشوب قلبه شىء، لذا قال: «دون حفظ الوصايا الإلهية لا يستطيع أحد أن يتقدم ولا فى فضيلة واحدة»، إنى ما رقدت قط وأنا حاقد على أحد، وحسب طاقتى لم أترك أحدًا يرقد وهو حاقد علىّ، لو كان ممكنًا أن ألتقى «أبرص» أعطيه جسدى وآخذ جسده لكنت سعيدًا جدًا، لأن هذه هى المحبة الكاملة.
يقدم لنا الأب أغاثون فهمًا حقيقيًا للحياة الرهبانية بل للحياة المسيحية، بكونها ليست نضالًا نسكيًا بحتًا، وإنما هى حياة داخلية مقدسة ترتبط بالحياة النسكية بلا انفصال. وإذ كُتب: «كل شجرة لا تأتى بثمر تقطع وتلقى فى النار» (متى ٣: ١٠)، فمن الواضح أنه يلزمنا بالاهتمام بالثمار، أى الاهتمام بالروح، ولكنها تحتاج إلى حماية الأوراق وزينتها أى للنسك الجسدى.
عاش الأنبا أغاثون متجردًا من كل شىء، لا يملك شيئًا سوى سكين يشق بها الخوص أينما وُجد، لذا كان يُغيّر مكانه دون تعب ولا حاجة أن يأخذ معه مؤونة. بقى حريصًا على خلاص نفسه إلى النفس الأخير، ففى رقاده الأخير سأله الإخوة ماذا ينظر فقال لهم إنه ينظر دينونة الله، ولما ألحوا عليه أن يتكلم قال: «اصنعوا محبة ولا تتكلموا الآن لأنى مشغول»، ثم رقد بفرح، وكانوا يرونه يرحل عنهم كمن يودّع أصدقاء أحباء له.
من أقواله الروحية الصادقة: «إن كنت مشتاقًا إلى ملك السماء فاترك غنى العالم»، وهذا يتعارض مع الوضع الحالى الذى نشاهد عليه الرهبان والأساقفة عند تركهم أديرتهم وخدمتهم بالعالم، حيث يشاهد فقراء سياراتهم الفارهة والحراسات البشرية والتبجيلات من ضعاف النفوس والمنافقين، ومن العجب أن أحدهم نظر إلى الرهبنة على أنها «طاقات مُعطلة»، يا للهول ويا للحزن والأسف.
الآن الوضع سيئ جدًا، فمثلًا منذ بضع سنوات أُقيم بجوار معهد الدراسات القبطية بمنطقة الأنبا رويس- العباسية- القاهرة، صرح معمارى ضخم، قيل وقتها إنه سيكون مخصصًا لمكتبة بطريركية كبرى لخدمة المصريين جميعًا، حتى إنه تم تشكيل لجنة علمية لإدارة هذه المكتبة فتم اختيار د. عايدة نصير، إحدى مديرات مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبعض المهتمين بالعمل الثقافى ومنهم كاتب هذا المقال، وقام البابا شنودة الثالث، البطريرك ١١٧، بنشر هذا التشكيل بالصفحة الأولى بمجلة الكرازة.

لكن بقدرة قادر تحوّل المبنى- الذى يُطلق عليه المركز الثقافى القبطى الآن- إلى ملكية خاصة لأحد الأساقفة، يديره كيفما يشاء وبه مقر سكنى له، على مسئولى إدارة الكنيسة أن يبتعدوا كلية عن أدوار ليست أدوارهم ومسئوليات لم يتكرسوا لكى يقوموا بها.
للأسف لقد فهم آباء الكنيسة عبارة «من فم الكاهن تؤخذ الشريعة» فهمًا خاطئًا!! فالمقصود هنا أنه من فم الكاهن نتعلم الشريعة الإلهية وليست الأرضية، ونتيجة غياب الوعى الفكرى عند عامة الشعب القبطى فقد انخدعوا بتلك الكلمات ولا يملكون سوى ترديد عبارات الطاعة العمياء، حتى إنه انتشرت مقولة غريبة تقول: «ابن الطاعة تحل عليه البركة»، وأصبحت تُقال عمّال على بطّال ولا يُعرف من أين جاءت تلك العبارة.
لقد أثبتت الأحداث الجسام التى مرت بالكنيسة أن تدخل آباء الكنيسة فى السياسة «وهم غير ملمين بها» أفسدت الروحيات، وتهميش الشعب تسبب فى خسائر فادحة فى الأرواح التى تبحث بصدق عن خلاص نفسها، لقد طالعنا مؤخرًا أن أحد الكهنة عندما أراد أن يترشح لعضوية «مجلس النواب» جلس مع أحد الأساقفة للتشاور معه فى هذا الموضوع ثم أخذ موافقته، أى موضوع يتحدثون عنه؟ وهل هذا الأسقف أملى عليه بعض المطالب التى يتحدث فيها فى المجلس.
أسقف آخر فى شرق الإسكندرية بدأ فى استقبال المرشحين بالدائرة، أيضًا أسقف آخر بدأ فى استقبال مجموعات شبابية منخرطة فى العمل السياسى، مثلًا أنا لا أفهم كيف أن الأسقف الذى يُدشن الكنائس والأيقونات الكنسية يقوم فى نفس الوقت بافتتاح دورات مياه فى مقر أسقفيته، لا أفهم كيف تهمل الكنيسة رجال القانون والتشريعات وتسند قانون بناء الكنائس إلى مجموعة من رجال الدين ليتناقشوا مع المسئولين فى نقاط القانون، وللأسف ما زالت الكنيسة تستعين بأحد الأساقفة الذين أساءوا من قبل إلى الأحوال الشخصية بين الأقباط، كما كان له دور سيئ فى انتخابات ٢٠١٢. أقول لآباء الكنيسة: اسمعوا نصيحة يثرون، كاهن الأوثان لموسى النبى: «لماذا تقتلوا أنفسكم بانشغالكم بكل شىء كأنما ليس فى العالم سواكم من العارفين، قسّموا المهام، وأعطوا لكل واحد حسبما يتوافر له من علم وموهبة وتفرد».
الإنسان الحكيم هو الذى لا تفارق عيناه اتجاه البوصلة كقائد السفينة الماهر، وكما ورد فى سفر هوشع النبى الإصحاح الرابع، الآية السادسة: «قَدْ هَلَكَ شَعْبِى مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ. لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا حَتَّى لاَ تَكْهَنَ لِى. وَلأَنَّكَ نَسِيتَ شَرِيعَةَ إِلهِكَ أَنْسَى أَنَا أَيْضًا بَنِيكَ».