رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خريطة الخلافات والانشقاقات التركية الداخلية


تبدو تركيا وقد دخلت مبكرًا إلى ماراثون انتخابات ٢٠٢٣، بالنظر إلى خرائط سياسية جديدة يجرى تشكيلها على نحو متسارع ربما منذ سنوات، لكن هذه الأيام يشهد الداخل التركى خطوات تسهم فى تثبيت خطوط تلك الخريطة الجديدة، بالأقلام والأحداث الثقيلة التى يصعب محوها حين الوصول إلى لحظة النزال الفعلية، بل هناك مَن يذهب إلى أن النظام الحالى قد لا يتمكن من البقاء حتى هذا التاريخ، على خلفية حزمة المهددات والتعقيدات التى زُج بتركيا فيها، مما دفع البعض لتسارع خطواته بحثًا عن تبكير قسرى لتاريخ ٢٠٢٣، أو قدرى، رغبة فى الرهان على أيهما أقرب.
يعتبر كل من «أحمد داوود أوغلو» و«على باباجان» ورئيس تركيا السابق «عبدالله جول»، أبرز القيادات السابقة لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، فهم من طليعة المؤسسين للحزب، وظلوا يمثلون قيادات الصف الأول بجانب الرئيس الحالى للحزب، الرئيس التركى رجب أردوغان. جميعهم تقريبًا خضعوا لسيناريو واحد، وإن اختلفت مراحل الشقاق، وبوادر الفرقة بين هذه القيادات مع رفيق دربهم الرئيس أردوغان، صاحب السبق فى حساب السنين، يجىء «عبدالله جول» الذى اختفى من المشهد السياسى التركى، أو جرى إبعاده لأسباب غامضة تراوح الحديث عنها ما بين الفساد العميق والقرار التنظيمى الداخلى، الذى قرر انتهاء دور جول على المسرح السياسى بشكل نهائى. ثم لحقه كل من «أحمد داوود أوغلو» رئيس الوزراء الأسبق، والمنظر الكبير لاستراتيجية وسياسة الدولة التركية الخارجية المعروفة بسياسة «صفر مشاكل». ووزير الاقتصاد ورجل الأعمال الشهير «على باباجان» المقرب من أوساط الاقتصاد الأوروبية والعالمية.
ربما تعكس مواقف الأخيرين على وجه التحديد، باعتبارهما حرصا على احتفاظهما بمواضع أقدامهما على المسرح السياسى، بل وذهبا إلى أن يناصبا أردوغان ودائرة حكمه الحالية العداء الصريح، الذى يتجلى هذه الأيام بشكل كبير وعلى مختلف أصعدة الملفات المثارة حول نظام الحكم التركى فى الداخل والخارج أيضًا. أسباب الخلاف الفعلى بين الصديقين السابقين، «داوود أوغلو» والرئيس أردوغان ظلت لسنوات مثارًا للتساؤلات، فداخل طيات تلك العلاقة وصل أوغلو لتقلد منصب وزارة الخارجية، ومن ثَم رئاسة الحزب والحكومة لسنوات، قبل أن يصل الخلاف لمرحلة القطيعة، بل وتراشق الاتهامات العلنية. هناك من كان حاضرًا لكواليس هذه العلاقة وتحدث بأن قضية «أكادميو السلام» هى من أبرز أسباب الخلاف بين أوغلو والرئيس أردوغان، فإن «أكادميو السلام» هى مجموعة من الأكاديميين الأكراد والأتراك، كانوا قد وقعوا فى العام ٢٠١٥ على عريضة، طالبوا فيها الحكومة التركية حينذاك- بزعامة حزب العدالة والتنمية وأردوغان- باستئناف مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستانى الذى يعده أردوغان والموقف الرسمى للدولة «كيانًا إرهابيًا» لتسوية الأزمة الكردية. لكن أوغلو وجد فى هذا السياق؛ أن أردوغان أطاح بطاولة مفاوضات السلام الكردى الذى كان قابلًا للحياة، بعد أن اتجه المواطنون الأكراد إلى دعم حزب «الشعوب الديمقراطى» بدلًا من حزب «العدالة والتنمية».
بالطبع هذه الواقعة التى قد تمثل شرارة الافتراق الأولى، لكن الخلاف الأعمق بين الرجلين يشمل غالبية التوجهات التركية الحالية، وفى ملفات انخراطها المباشر على وجه الخصوص. ففى الوقت الذى يؤمن فيه بالمنهج اللا صدامى مسئول الدبلوماسية السابق «داوود أوغلو»، صار منطقيًا ولزامًا أن ينتقد بشدة تحركات بلاده فى الملفات الشائكة حاليًا، التى تأتى على رأسها أزمة شرق المتوسط، فهو يرى أن تركيا تجازف بشدة بالدخول فى مواجهة عسكرية فى شرق المتوسط، لأنها على هذا النحو تعطى للقوة أولوية على الدبلوماسية. هو لم يلغ مطلقًا دوافع وأسباب التحركات فى «المتوسط»، على فرضية أن أنقرة لديها تظلمات حقيقية بشأن مطالب اليونان، بالأحقية فى عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة فى البحر، وصولًا إلى ساحل تركيا على البحر المتوسط. لكن يظل بالنسبة له النهج الذى يتبعه أردوغان وينطوى على مجازفات خطيرة. كما يجد رئيس الحكومة التركية الأسبق ميلًا واضحًا إلى الاستبداد، فى ظل نظام الرئاسة التنفيذية الجديد فى تركيا، حيث اتهم أكثر من مرة بصورة علنية حادة الحكومة بإساءة إدارة سلسلة من التحديات، من بينها الاقتصاد وتفشى فيروس كورونا والتوتر المتصاعد فى شرق البحر المتوسط.
الأسبوع الماضى تناقلت كل وسائل الإعلام التركية والعالمية، الكلمة القاسية التى ألقاها «داوود أوغلو» فى وجه أردوغان، عندما شن عليه هجومًا حادًا فى مؤتمر الحزب الذى أسسه أوغلو «حزب مستقبل» فى مدينة «مرسين»، قال فيها إن: «الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، وعائلته، أكبر مصيبة حلت على تركيا». حيث اعتبر أوغلو أن حرص أردوغان على البقاء فى الحكم؛ جعله لا يتردد فى عقد التحالفات السياسية غير الطبيعية، مبدئيًا كتحالفه مع حزب قومى وآخر يسارى هما «الحركة القومية» بقيادة دولت بهجلى، و«حزب الوطن» بقيادة دوغو برينجك، فضلًا عما ذكر فى مؤتمر الحزب من أن أردوغان أقام تحالفًا حتى مع انقلابيى نهاية تسعينيات القرن الماضى. أما عن دعوة أردوغان الأتراك للصبر على المصاعب التى يمرون بها، فيرى أوغلو وأعضاء حزبه أن الشعب التركى سيصبر. ولكنهم طرحوا عديدًا من الأسئلة؛ على أى مصيبة سيصبرون؟ ومن هم المتسببون فى هذه المصيبة؟ إذا كان المقصود الصبر على الفقر والبطالة والتضخم والفساد والظلم، فمن كان سببًا فى كل ذلك يا ترى؟ وهو ما دفع أوغلو للإجابة؛ بأنه: «أنتم أنفسكم المصيبة. أكبر مصيبة حلت على هذا الشعب هو ذلك النظام، الذى حول البلاد إلى شركة عائلية كارثية».
أما السياسى والاقتصادى التركى والمسئول الحكومى السابق «على باباجان»، فقد ذهب لأبعد من ذلك كثيرًا، حيث اعتبر أن الحكومة الحالية فى تركيا لن تتمكن من خلق البيئة الآمنة والمستقرة فى البلاد، وأن النظام الحالى لن يستطيع الصمود حتى الانتخابات المقبلة فى عام ٢٠٢٣، فالبنية الاقتصادية والمالية من وجهة نظره تدهورت كثيرًا، ولم يعد بحوزة السلطة الحاكمة أى موارد بالوقت الراهن. ففى حين أنفقت السلطة الحاكمة الصناديق الاحتياطية المخصصة للأزمات، لتجد دولة تركيا نفسها تواجه مشكلة كبيرة حقًا، عندما قامت هيئة الإحصاء التركية بذكر أن التضخم النقدى فى تركيا سجل خلال شهر سبتمبر الماضى ١١.٧٥٪ فقط، شككت أوساط الأكاديميين وخبراء الجهاز المصرفى والمعارضة بالطبع فى أرقام بياناتها، ووصفها الجميع بالمزيفة. البنك المركزى التركى برر أن معدلات التضخم المرتفعة فى تركيا، نابعة من ارتفاع أسعار العملات الأجنبية أمام الليرة التى فقدت ٢٥٪ من قيمتها، منذ مطلع العام الحالى ٢٠٢٠. حزب باباجان «ديمقراطية وتقدم» يرى أنه وحزب أوغلو «المستقبل» لم يحققا أى نسب حاسمة فى الانتخابات التى جرت مؤخرًا، لكن ما حققه الحزبان من تقويض للدعم الذى يحظى به حزب «العدالة والتنمية» يجعل سعى أردوغان لكسب الأغلبية فى الانتخابات المقررة عام ٢٠٢٣ أكثر صعوبة.
على جانب آخر ترى قواعد حزب «العدالة والتنمية»؛ أن نوابًا وقياديين من الحزب ما زالوا غير مقتنعين بجدوى التحالف، مع حزب «الحركة القومية» اليمينى المتطرف بزعامة «دولت بهجلى»، حيث كثرت انتقادات قواعد الحزب لهذا التحالف سيئ السمعة، مع ظهور عديد من المشكلات والخلافات العميقة بين قواعد وقيادات الحزبين فى أكثر من ولاية تركية. فرغم تجاوز هذا التحالف أكبر العقبات الانتخابية سابقًا عبر تعديل الدستور وقضية الانتخابات الرئاسية، فإنه تعثر سريعًا بعدها فى جولة انتخابات البلدية، التى خسر فيها كبرى المدن رغم تقدمه فى مدن أخرى، ما سبب نكسة قوية وتراجعًا ملحوظًا فى شعبية تحالف السلطة، الذى صار اليوم محل تهديد كبير بعد انهيار سمعة قدرات مرشحيه على التفاعل مع القضايا الضاغطة، أهمها بالطبع الاقتصاد ومكافحة الفساد الحكومى والعائلى، فضلًا عن القصور الحاد فى القدرة على مواجهة المشكلات الإقليمية، التى صارت تلقى بظلالها على نحو واسع داخل خريطة التحالفات الحزبية، لا سيما وهى محل انتقاد يتنامى باطراد ويطال الرئيس أردوغان ودائرة حكمه وحلفاءه المقربين.
آمن