رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرى

جريدة الدستور



كنت على الإنترنت أجمع معلومات عن شاعر بريطانى رفض وسام الملكة البريطانية.. أعد مقالًا عن الكاتب المصرى «صنع الله إبراهيم». بعد التحية القصيرة التى لم نجد أقصر منها على الماسنجر، قالت لى:
- أنا هنا من زمن.. أبحث عن أخبار المرحومة «ذكرى».
سألتها، فأجابت:
- المطربة.
قلت لها:
- هل ماتت؟ هذه إشاعة.
التفتُ لأختى.. فصلت لى الخبر فى كلمات قليلة، عدت للأخرى:
- ماذا وجدت على الشبكة؟
أعطتنى اسم محرك البحث الذى دخلت منه على الصحف والمجلات المصرية.. بدلًا من هذا كتبت فى خانة البحث: «ذكرى».. مائة وخمسون نتيجة.. ذكرى نكبة فلسطين، ذكرى العدوان على... ذكرى ثورة... حفلات فى ذكرى... بيان اللجنة الليبية للدفاع عن حقوق الإنسان فى ذكرى... فتحت الأخير مصغرًا نافذته وعدت لأبحث، أقلب الصفحات.. نحن مجموعة ذكريات.. قررت الاستسلام، عدت لأكتب فى خانة البحث بعد أن سألتها:
- الصحف والمجلات المصرية.. جريدة الجمهورية.
- الجمهورية أم الجماهيرية؟
علقتُ، منتظرًا نتيجة البحث، فتحت بيان اللجنة الليبية، فاجأتنى أصوات هتافات فى النافذة، بصعوبة بدأت أستوعب مع قراءتى للبيان المضاد.. ضحكتُ، سألتنى:
- مظاهرة عندك؟
قلت لها نتيجة البحث أخرجت مفاجأة، نقلت العنوان لها، عدت لأضغط على الجمهورية، وأكتب كلمة «زيفانيا» فى موقع البحث.. سمعت الهتافات عندها.
- اقرأيها ثم امسحيها.. قد تسبب لك المشاكل.
أجابت مسرعة:
- لقد مسحتها فعلًا.. كم أود أن أعيش فى مصر.
ضحكت أنا قائلًا:
- لا أحد راضيًا بحاله.
جهلى بإملاء اسم «بنجامين زيفانيا» هو الذى جعلنى أبحث فى المواقع العربية.. الجمهورية، ولم أعثر على «ذكرى».. أسألها تقول:
- فى الجانب الأيسر.
أبحث، أعثر على سطر صغير.. الزمالك.. طوال الليل على المقهى تطالعنى كلمة الزمالك فى الصحف المسائية فأظن الحديث عن النادى الشهير.. عناوين الرياضة تتطور لدرجة قد تسع صفحتين بالبنط العريض: مذبحة فى الزمالك.. ثورة داخل الأهلى.. الانقلاب على الاتحاد.
- هل وصلت؟
- آه.. أخيرًا.
مائة رصاصة! مذبحة حقيقية.. أعود للمظاهرة، أكمل القراءة.. «زيفانيا».. لا معلومات أكثر ولا روابط.. العائلة تبحث عن الحقيبة السوداء.. سر الحقيبة السوداء.. نظرية للمؤامرة.. لماذا قتل نفسه؟ هل خانته ذكرى؟.. دائمًا سطحيون، حتى الخبر لا نكتبه بشكل عقلانى.. أتصورنى على مقعد الصالون الوثير ممسكًا بسلاح آلى أمطر الجالسين معى.. ما الذى يجعلك تطلق مائة رصاصة.. تذكرت فيلمًا لـ«ستانلى كوبريك».. مشهد لا ينسى حين يقتل الشاب نفسه.. أكيد هو الإحساس بالعار.. تسألنى، أجيب وأنا أسأل غيرها.. كثيرون لم يعرفوا بالخبر.. لماذا تهتم هى؟.. آه.. طرابلس الغرب أقرب لمدينة ذكرى فى تونس.. أستمر فى القراءة.. الزوج من محافظة الشرقية.. إنها تلك المفارقات التى تخلق الدراما.. مغاربية وشرقاوى.. هناك كلمة ما عن علاقة الشرق والغرب تراوغ بين التلافيف.. أقبض على كلمات وجمل وانطباعات أخرى كثيرة.. بدأ أصدقاء ومعارف وشبكيون يتوافدون على الماسنجر.. يبدو أننى حظرت بعضهم من رؤيتى.. هل أنا خائف؟ لماذا لم أمسح عناوينهم؟ إنها العلاقة المطردة بين الثقافة والتردد.. هل تظن ذلك؟ أعرف مجانين يكتبون أدبًا.. هل هم مجانين حقًا؟ هناك رواية لرجل إسبانى كتبها منذ أربعة قرون، ما زلت أبحث عنها لأقرأها.. يا سلام؟!
تتحدث هى تمامًا كالمصريين.. هل نقلنا الفن كاملين؟.. أستطرد:
- لا أريد أن يشمت بى «إدريس» و«شكسبير» ولا نظرات عطف من «تولستوى» أو «دوستويفسكى».
- أنت مجنون.. أجمل مجنون عرفته.
أتوقف أمام كلماتها.. التورط سيكون صعبًا هذه المرة.. قلت لها فى حديث سابق: «تعالى نفتح الجروح لنطهرها».. هل أملك القوة؟ هل تملك الصبر؟ أسألها عن طفلها.. تجيب:
- حرارته مرتفعة.
قلت لها:
- ربما تنبت له أسنان.
- صحيح.. أنت ولدت بأسنانك بالتأكيد.
أضحك وأسأل:
- لماذا؟
- أنت «شنكوتى» كبير.
- أنا غلبان.
- أمسك نفسك وإوعى تتهور.
أضحك متخيلًا وجهها الأليف وهو ينقبض وينبسط مقلدًا «عادل إمام».. ربما فيها شبه من حبيبة مستحيلة. أيهما تفضل رشاش آلى أم أن تكون قناصًا؟ دائمًا دقيق أنت.. أتحتاج لمائة رصاصة لتدافع عن حبك أم واحدة صائبة؟ الفكرة دائمًا تأتيك كرصاصة، تخترق عقلك بعد تمهيد قليل، يرتج بدنك كمحموم.. تكتب القليل من أفكارك.. أتخاف المجتمع؟ تتسلل منه بين تعاريج الكلمات.. هل تظن أنك إنسان أكثر مما يلزم للحياة، ستخترق الرصاصة الأخيرة مخك كفضيحة.. أمى حكت لى حكاية غريبة للمرة الأولى عندما سألتها: «متى تنبت أسنان الطفل؟» ضحكت وقالت إن أسنانى نبتت مبكرًا جدًا، ظللت أضحك طويلًا وأخبرتها بأن صديقتى الليبية قالت هذا، طالبتها بالتفاصيل.. عجوز اعتقدت أن أمى تفطمنى أرزًا:
- مبكرًا جدًا فطام الصغير.. حرام عليك.
وتمد أمى يدها لفمى:
- هذا ليس أرزًا.. إنها أسنان.
العجوز تنتفض وتظل تستعيذ وتبسمل وتحوقل، يظهر شىء كالألم على وجهها.. أتخيل فزعها.. كيف لم تهتم أمى بالحادثة.. العجائز يحملون أسرارًا بقدر أعمارهم.. ظللت أفكر فى مغزى الحكاية.
وأنا صغير تخيلت أن «يهوذا» كان يخفى خنجرًا وظلت هذه الصورة فى ذهنى ملتصقة بالخيانة، لكنى لما كبرت قليلًا اكتشفت أن يهوذا لم يطعن المسيح غيلة، بل احتضنه.. بحثت عن تفاصيل هذا فى الأناجيل وشروحها.. لم يملك يهوذا خنجرًا.. كتبت قصة فوجدتنى أدعى له خنجرًا.. خنجر نبت من التراث والتف حول مخيلتى.. كلما بحثت عن جذوره أتعثر فى حكايات أخرى، أكتشف دوافع إنسانية تمامًا للغدر، ومرادفات فلسفية للخيانة، إلا اندهاشى من قناص نيويورك.. لماذا تقتل أشخاصًا بلا دافع أو رابط؟.. أعتقد أن مطالبته بالفدية من السلطات كانت لإخفاء دافعه الحقيقى. ليس من المعقول أن يعانى قناص من البطالة.. يقول صديقى إننا تربينا على أصوات الرصاص فى الأفلام الأمريكية حتى لم يعد هناك معنى إلا للقنبلة.. الانفجار كان يرادف كلمة الثورة.. ينال قداسة ما.. والرصاص صليب العصر.. موت رخيص هادئ.. أتذكر أول رصاصة حقيقية شاهدتها وأنا صغير.. كانت بين تذكارات خالى.. ربما من الحرب.. أخذتها أم لا؟ لا أذكر الآن.. كنت أتعامل معها بحذر وخوف وقداسة.. قد تعنى الرصاصة حياة فى جسد، ربما أكثر.
لم أدخل الجيش ولم أتلق تدريبًا عسكريًا فى أى مرحلة من مراحل عمرى، فقط أطلقت «الرش» فى مولد «أبى العباس المرسى» وأنا صغير، كنت أصيب هدفى دائمًا من المرة الأولى رغم أنهم كانوا يثنون مواسير البنادق ليخطئ الأولاد.. كانت «بمبة» أو عود ثقاب.. كانت البندقية ترتد فى كتفى يتبعها صوت الإصابة.. كنت أتخيل أحيانًا لو كان هدفى إنسانًا.. كيف ستخترق الرصاصة الجسد بلا صوت؟ فيما بعد حين تفرجت على معارك حقيقية مسجلة، اكتشفت أن للعظام صوتًا والرصاص يخترقها، ودخان البارود يتصاعد من الأجساد، لوقت كنت مقتنعًا أن القصة القصيرة هى رصاصة إما تصيب أو تخطئ، ولهذا فكرت فى لقب قناص القصة.. ربما تراوغ اللغة كثيرًا، فقناص أى نهّاز للفرص «تعريف من قاموس ما» وللأسف فشلت أن أكون ذلك الأخير.
فرصتك الآن لتقتنص القصة، واللقطة، والحيرة، مقدمًا رأس «صنع الله إبراهيم» على طبق ثقافى بدون فاتحات شهية أو «مَزّة».. الأمريكان الذين تدربوا طويلًا فى أفلامهم يبدأون فى تنفيذ ذلك فى الواقع، ورغم كل البروفات ما زال البعض يخرج على النص، ربما مثل حبيبتى، حبنا كان خروجًا على النص، لكن متمردًا وحيدًا لا يكفى لثورة.. لن تكفى طلقة واحدة لقتل من تحب، ليس القنص مهنة مباغتة، الثورة تحتاج للخطة «B»، حبيبتى بلا بديل. إذًا ينقصك شىء مهم وأنت تعتلى المنصة وفى قميصك الصيفى ورقة بها ما يضاهى المائة كلمة، تعرف جيدًا أن ذاكرتك لن تسعفك وأن بصرك سيقتنصها من بين الحضور، وينفتح شلال النظرات بينكما، العتاب لن يكون سبيلًا لكسر الجمود، سترتجل كلامك هذه المرة أيضًا ونظراتك تخترقها، عيناها المنهكتان تطالبانك بالرحمة. عندما تنتهى من كلمتك القصيرة تلقى نظرة على المجتمعين، تنزل من فوق منصتهم مكللًا بالتصفيق، وبصرك يفقد المعانى بغيام دمعة تتصاعد فى داخلك، يقف جسدها الطاووسى مليئًا بالثقوب ويغادر المكان بخطى سريعة، وتنتظر أنت رصاصة رحمة لا تجىء.