رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المسرّات

محمود عبد الوهاب
محمود عبد الوهاب

قضيت فى ليل أمس وقتًا بهيجًا بعد نصف القرص الكبير الذى تناولته فى الصباح، فعلى الرغم من تقليدية الحلم الذى رأيته، فإنه كان كأحلامى التى اعتدت عليها، حافلة بالمشاهد إلا أنها خالية من العنف، كما كان نومى هادئًا، فلم أتزحزح عن منتصف السرير تقريبًا، وعندئذ قمت سعيدًا ومبكرًا فى السابعة، شربت زجاجة ماء كاملة كما أفعل أيام الإجازات قبل التفكير فى الإفطار الذى كان قويًا هذا الصباح، حيث أرسلت البواب ليحضر لى بالإضافة إلى الفول الساخن والعيش البلدى، أقراص الطعمية المبهجة والممنوعة.
لما اتكأت على الكنبة بعد الإفطار، ومع كوب القهوة الصغير، بدأت أسترجع الحلم، فرأيت نفسى فجرًا فى شارع أحمد عرابى بالمهندسين، وقد صعدنا جميعًا إلى الأتوبيس الذى كان سيقلنا إلى المطار، نحن المحظوظين الذين قد وقع عليهم الاختيار لبعثة دراسية فى إنجلترا لمدة عام.
وعلى الرغم من عمرى المتقدم بالنسبة إلى البعثات، فقد تشاورت مع أمى، محتفظًا بعمرى بينما صغر عمرها، ورأيت أنى أستطيع التوفيق بين مسئولياتى العائلية تجاه خالتى والبعثة، وذكرتنى أمى أنها غير موجودة وأنه ليس علىّ من بأس.
فى الأتوبيس سألت السائق عما إذا كان سيقلّنا إلى المطار أم إلى محطة مترو نركب منها إلى وجهتنا، وأجابنى الرجل مرتاحًا بأن الدولة تهتم بأمثالنا أى اهتمام، وأننا بالطبع ذاهبون إلى المطار بل إلى باب الطائرة، ولكن نظرًا لتعطل وصول الطائرة، فسوف تتأخر فى القيام، وحينذاك اقترح علينا نحن الركاب أن ننزل من الأتوبيس ونصعد إلى حيث استقبال الفندق حيث نتناول ما يحلو لنا من مشروبات وإفطار الصباح، وذلك على حساب الدولة، اعتذارًا منها عن التأخير الذى لا ذنب لها فيه، حيث تتبع الطائرة الخطوط البريطانية، حتى استقر فى يقينى أننى أمام جهة منظمة وأناس يعلمون ما يفعلون، فقررت الاسترخاء فى بهو الفندق كما أشار الرجل، فقعدت مع أفراد من عائلتى لا أدرى من هم، نتبادل الأحاسيس الجياشة قبل الوداع، انتظارًا للإعلان عن التحرك والعودة للأتوبيس كما قال الرجل.
ولكن الوقت طال، فذهبت بدافع من القلق الخفيف إلى الاستقبال أسأل عن الأتوبيس، فقال لى الرجل متعجبًا إنه قد غادر، ثم نظر إلى ساعته ليتحرى الدقة، حيث أخبرنى بأنه قد تحرك من سبع دقائق بالضبط.
لم يكن هناك وقت لوداع أهلى، ولا للتفكير فى أى شىء، عدا القفز إلى الخارج مستقلًا سيارتى الصغيرة، كان رجال الأمن يمصمصون شفاههم، ناظرين إلىّ بإشفاق، أما أنا، فقد نقمت على طبعى الذى جُبلت عليه، بإعطاء الثقة الزائدة فى الحياة، والاتكال على اعتناء الآخرين بى وعلى كلامهم المعسول، هذا الطبع الذى أفقدنى جميع التواثبات التى كنت سأحصل عليها لو اغتنمت الفرص، وما أكثرها، كان يمكن لى أن أصير إنسانًا آخر، فى وضع آخر ومكان آخر، لكنه طبعى.
فأما عدد الزيجات التى رفضتها فهو أفدح مما يمكن تصوره، أشير هنا ضاحكًا إلى إحداها، رشح لى زميلى فى الفندق أخت زوجته، وكنت قد حضرت زواجه فى الفندق نفسه ورأيت الفتاة، ثم أخذ يدعونى إلى بيت حماته للزيارة، كانت السيدة من أطيب السيدات اللاتى رأيتهن فى حياتى، والبنت وديعة وبها جمال معقول، لكن بها شىء يبعدنى عنها ولا أفهمه، يبدو لى الآن بعد ثلاثين عامًا من البحث عن إجابات للسؤال أنه تعلقها بى.
أحبتنى الأم، وكانت تحكى لى عن ابنتها فى التليفون، عن أسرارها الصغيرة، عن تغييرها لملابسها الداخلية فى اليوم عدة مرات، وسخرية الأم الناعمة منها، وكنت مؤدبًا، أستقبل الثقة بما يدعمها ولا أخون، ولم أقابل البنت منفردًا أبدًا إلا بعد علم أسرتها، أذهب لآخذها ثم أعود لأعيدها فى الميعاد، حتى عندما طلبت هى ذلك فى يوم، رفضت، وهو الأمر الذى أنظر له بابتسام اليوم، فلو كنت أريدها حقًا ما كنت اهتممت بالأمر، لكن لأنى فى قرارة نفسى أعلم أننى غير قادر على الإكمال فاهتممت بعدم الوقوع فى أخطاء.
هذه نفسى التى تتملص من أى ارتباط، وتختنق من أى التزام، لكنى ملتزم بعملى، وبأقربائى وبمواعيدى، أما حياتى الخاصة فلا أعلم من أين جئت بكره القيد، أى قيد ولو كان من حرير، ولو كان من أجمل النساء، ولو كان حتى التزامًا بالحرية ذاتها، كأننى لو رأيت الجنة فسوف أهرب من حور العين المشهورات، إلى حبيبتى التى أرغب فى التحدث إليها أو البقاء وحدى، متأملًا المنظر من بعيد.
أرتنى البنت الوديعة صور أبيها المعلقة إلى الحائط فى صالون البيت، بالبذلة العسكرية الصفراء، ضابط شهيد من شهداء حرب أكتوبر، كنت أنظر لعينيه فى الصورة وأكاد أحدثه، وثمة تقدير فى نفسى أعطيه لشهداء الحرب أو الواجب أعلى من أى تقدير آخر، لأنه ضحى أو فقد ما لا يمكن لآلاف البشر أن يضحوا به، الحياة.
وقد فضلتنى البنت على جميع من تقدم لها، فكنت أزيد فى الرفض مغلفًا بالاعتذار الرقيق، بأننى لا أملك أى مال لبدء الحياة، ولم يردعها ذلك فكان صديقى يكلمنى.
ثم جاء شهر أكتوبر، وأصرت البنت على زيارة قبر أبيها فى مقابر الشهداء بالإسماعيلية، كانت أول مرة تزوره، فذهبوا جميعًا، وعادوا باستثنائها، حيث عادت جثة هامدة بعد حادث سيارة على الطريق السريع.
خالها من كبار رجال الأعمال فى مصر، ممن يمتلكون المليارات، وممن لهم - بالطبع- وجود سياسى ثقيل- وإنى لأبتسم عندما أتخيل أى موضع كنت سأكون فيه، ولكنى أعود إلى تفكيرى بأن هذا لم يكن من القدر، فالمفاجأة حدثت، وبأى صورة من الصور لم أكن سأعينها على الحياة، لأنها لم تكن مكتوبة لها.
ثم تمر خمس سنوات كنت فيها صديقًا للأم، فإذا بها تحدثنى عن ابنة أخيها الملياردير، كنت فى الحقيقة أتعجب، ما الذى يأتى بكل هذه الأموال إلى هنا؟ أيبدو علىّ أنى طامع؟ على أى حال قابلت الابنة فى شيراتون القاهرة بعدما أوصلتها عمتها إلىّ، فلم تعجبنى، فجلست معها فى جلسة ودودة، علمت منها أخبار الماجستير الذى تدرسه فى أمريكا بعد تخرجها فى الجامعة الأمريكية، وإن بضعة شهور فقط هى ما تفصل بينها وبين العودة، فسنبقى على التواصل دون التورط شعوريًا فيما هو أبعد من ذلك حتى ترجع، وبعد أن سافرت ادعيت لعمتها أنى غير قادر على الإكمال، والغريب، الغريب الذى لم أفهمه وقتها، هو لومها الشديد لى لاعتذارى عن ابنة أخيها، على الرغم من عدم فعلها ذلك عندما اعتذرت عن ابنتها، لم تكن لتعاتبنى على ابنتها، ثم إنها ماتت.
مقطع من رواية جديدة تحت الطبع