رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صبحى شحاتة: لولا 30 يونيو لبادت حضارة السبعة آلاف سنة

صبحي شحاتة
صبحي شحاتة

يحل شهر يونيو من كل عام ومعه تحل ذكرى الثلاثين من يونيو 2013، ذكرى ثورة شعب استعاد هويته ومصره المختطفة من أنياب جماعة الإخوان الإرهابية.. «الدستور»، حاورت المثقفين حول ثورة 30 يونيو، ذكرياتهم معها، أثرها عليهم وعلى إبداعاتهم، والأهم ماذا لو كان استمر حكم الإخوان لمصر حتى الآن؟

قال الكاتب صبحي شحاتة: لقد أعتبرتُ ثورة 2011 عملا فنيا، وسجلت هذا في مقال عنوانه " الثورة بوصفها عملا فنيا" نشرته بنفس السنة، في مجلة الثقافة الجديدة، وهذا يعني أنني أري أن الفن هو جوهر الوجود الفيزيقي، والواقع الاجتماعي المصري والعالمي، لأن الفن تهيئة واستقبال وإظهار أشكال جديدة لم تكن موجودة من قبل، أي لم تأت علي مثال سابق، وصيرورة الوجود لا تكرر نفسها، فكل شيء مختلف عن الآخر ولا يطابقه، وكذلك المجتمع يتغير ويتطور أي أنه صيرورة أيضا تتخلق من نفسها، مستخدمة فاعليها..

ذلك أن ثورة 2011 حدثت وحدها تلقائيًا، ونمت، وتجمعت وتكونت بالناس، وهي التي أعطت الناس اسم الثوار، فلقد اكتشف المتظاهرون في ميدان التحرير، بعد فترة من تواجدهم واحتشادهم وتكاثرهم التلقائي، أنهم في ثورة، ولم يكونوا مدركين لذلك من قبل، لقد أخذتهم الثورة إلي هوية جديدة، تكونت بهم تلقائيًا، ومنحتهم صفتهم الجديدة، تماما مثلما يفعل العمل الفني- الذي يتأسس علي نفسه- لمبدعه، إذ يعطيه صفته وكينونته وهويته، وليس العكس، وهكذا انبثقت في مصر، ومن ثم العالم، روح جديدة تلقائيًا متخلقة من نفسها، دون برنامج مسبق، ودون تخطيط قبلي.

وهذا ما حدث في 30 يونيو 2013، وإن بصورة أخري، ذلك أن الأخوان لم يشاركوا الناس في تظاهرهم، ومن ثم في ثورتهم، في 2011، إلا بعدما تأكدوا أنها ثورة، وهذا يعني أن الإخوان لا يعرفون نظرية الاحتمالات، ولا عدم اليقين، ولا تلقائية الصيرورة الخالقة، التي يعرفها العلم والفن والفلسفة، فإذا بهم يواجهون اللا يقين الواقعي بيقينهم الظني، والواقع الحي المتغير النسبي، بتصورهم الثابت المطلق الذي يعتبرونه هو الواقع الفعلي، فهم يخلطون دون دراية بين السياسة، والدين، وهما مجالان بينهما اختلاف مطلق، ذلك أن الدين رهانه: الاعتقاد القلبي المطلق، بينما السياسة رهانها: الدنيوي والنسبي والمحتمل، فإذا بالإخوان يفاجئون بالروح الجديدة، للشعب المصري بكامله، من أقصاه إلي أقصاه، التي نمت منذ 2011، وامتدت وحاصرتهم، في 30 يونيو، وأجبرتهم علي التخلي عن السلطة، قصرًا وإرغامًا، فانتابهم الجنون، وهوس الانتقام، من تلك الروح الجديدة والمتجددة، التي بدت استجابة جماعية مطلقة، لنداء خالد، يتردد عبر العصور والحقب والمحن، هاتفا بالمصري:
قم فأنت لست بميت.

وعن أثرها عليه كمبدع اضاف: لأن الفن ثورة دائمة علي القديم، وانفتاح علي عالم جديد خلاق وطليعي، والواقع الاجتماعي، تجل من تجليات الصيرورة التلقاية المبدعة الخلاقة للوجود، وثورتي 2011، و30 يونيو 2013 روحا واحدة جديدة خلاقة وعظيمة، احتفيت بثورة 30 يونيو، وشاركت فيها، مثلما شاركت في ثورة 2011 واعتبرتها، وما زلت، تأكيدًا للروح الجديدة التلقائية الخلاقة، التي تريد مغادرة القديم، والثابت، واليقيني، والتي تفتح لنا أفقا للمحتمل، واللاي قيني، والإبداعي العقلي والعلمي والفني والفلسفي، وتلهمنا جسارة الانطلاق مع الصيرورة المتغيرة للوجود والمجتمع..

وأذكر في هذه المناسبة إنني ذهبت وأسرتي ظهر يوم ثلاثين يونيو، وكدنا ننسحق سحقًا من كثرة الناس وضخامة عددهم، داخل محطة أنفاق مترو التحرير وخارجها، رغم أننا كنا علي الأطراف من جهة مبني الأوبرا، ولما عدنا ودخلنا محطة المترو المقتظة عن آخرها، واندسسنا وسط الناس حتي جاء المترو، فإذا بسائقه وهو يدخل المحطة، يطلق صافرته متقطعة منغمة، بيب.. بيب.. فإذا بحشود المنتظرين علي جانبي المحطة، ونحن معهم نهتف تلقائيًا مع الصافرة هتافًا كان يرج باطن الأرض ذاتها: نهتف بكلمة مصر.. فكان الأمر كالتالي: سائق المترو: بيييب٬ والجماهير داخل وخارج المترو: مصر .

وفي مساء اليوم التالي، ذهبت إلي ميدان التحرير ومعي لافتة، كتبت عليها بخط عريض: نشيد الخرفان الأخير: ماء ماء يا مرسي.. ماء ماء ضاع الكرسي وكنت أهتف بها، وأغنيها بأعلي صوتي، متقافزًا بكل النشوة، فكان الشباب وهم لا يعرفوني يصوروني ويشاركوني الغناء مع الطبل والرقص والضحك وكل المرح..
ثم أشير لهم بالتوقف وأصيح بأعلي صوتي مرددًا كلمة عتيقة بائدة كان يقولها مرسي لأهله وعشيرته: اسمع يا مواطن من أقوال سيدي المرسي الرجل البركة الحق أبلج والباطل لجلج٬ أعرف نفسك يا مواطن هل أنت أبلج، أم أنت لجلج. فكان الشباب يتساقطون في ضحك مريع فأعاود القفز النشوان وأغني وهم معي.

كانت الثورة وما زالت بالنسبة لي: فرح.. وعيد.. ونشوة ملهمة. ولقد تجلي أثر الثورة في روايات عديدة ليّ، منها المنشور، مثل: رواية الضعف، ورواية الحب، ومنها غير المنشور مثل: رواية الظلال، ورواية الثراء، ورواية دعابة..

وحول ماذا لو ظل الإخوان في مصر حتي اليوم. أظن أننا كنا سنعيش الكوميديا السوداء ذاتها، وفصلًا من فصول مسرح العبث علي أصوله، وستتحول مصر إلي عنبر العقلاء الشهير في مستشفي المجانين، وسيلقي بنا خارج الزمن التاريخي، والواقع الأرضي الفعلي تمامًا، ذلك أن الإخوان مرضي نفسيون، يخلطون بين الأزمنه والأمكنة، والجغرافيا والتاريخ، والدين والدنيا، والطب والسحر، والخرافة والحقيقة، ولا يرون الواقع الفعلي في خصوصيته، وتنوعه، وغناه، وثراءه المعرفي والذوقي، ولا يعرفون الاختلاف، والتباين، والتميز، والاستقلال الفردي، والحرية بكل أشكالها، كحرية الاعتقاد، والتعبير، والإبداع، الخ، ولا يعرفون كذلك التغيّر، والتطور، والقطيعة المعرفية، وورود عوالم جديدة مستقبلية، لا نهائية، وإنما هم يعيشون في ما يسمونه بالمحجة البيضاء، ليلها كنهارها، فكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار، ومن ثم هم لا يرون إلا ما هو داخل رءوسهم من هلوسة شبحية مرضية، وصور مثالية ذهانية، ليست إلا تعبيرًا عن مرض جنون العظمة، وهي صور عن واقع قديم بائد سحيق غامض، لا يعرفونه إلا ظنا وتأويلاً، لكنهم يعتبرون ظنهم وتأويلهم، هو الواقع القديم نفسه، والواقع المعاش أيضًا، مثلهم في ذلك كمثل المجنون الذي يعتبر نفسه المخلص الأخير للعالم، أو النبي، أو الله ذاته، فالعلم الذي يدرس في المدارس والجامعات، لن يكون علمًا، وإنما ضربًا من ضروب السحر والشعوذة، وأثارنا القديمة ستلقي عليها اللعنة، وتتحول من أعمال فنية عظيمة مدهشة رمزا للخلود والعظمة، إلي مساخيط غضب الله عليها، وليس لها إلا أن تتحطم، مثل أصنام إبراهيم، وهكذا تباد حضارة السبعة آلاف سنة، علي يد معتوهين مسرنمين، يسيرون بظهورهم إلي الخلف بهمة، ظانين إنهم يتقدمون للأمام، وسينتهي الفن والآداب والذوق والإبداع، وكل نشاط إنساني حر متحضر، اكتسبناه بعد كفاح مرير، عبر القرون، وتوئد المرأة، وتتحول إلي سبية، تباع وتشتري، ويهجر الرجال رجولتهم الحية الفعلية والفاعلة، إلي رجولة وهمية متخيلة محنطة ميتة، ونغوص في الأحلام والكوابيس القديمة الغامضة السحرية الجنونية، ويرتع في أنحاء مصر بشر زومبي استبدلوا ذات متخيلة قديمة، بذاتهم العصرية، وجلبوا أسماء قديمة، بديلا عن أسمائهم العصرية، وارتدوا ملابس قديمة علي الطراز البائد المتخيل، بديلا من الملابس العصرية، وتشيع وتسود العادات القديمة البائدة، وتنحي العصرية والمعاصرة المتحضرة، ويتحول الواقع المصري إلي مسرح عبثي خالص، يرتع عليه ممثلون فقدوا زمنهم، وعصرهم، وهويتهم، وتقمصوا ذوات وأشكالا متخيلة هلوسية، لا علاقة لها لا بالماضي، ولا بالحاضر، وإنما بالجنون والعته، والضياع.. وتنتهي مصر كدولة حرة مستقلة، ذات سيادة، وكرامة، وتاريخ، وجغرافيا، وماضي، وحاضر ومستقبل، وتلتحق بما يسمي الخلافة العثمانية، ويصير المصريون كلهم وعن بكرة أبيهم، سبايا لدي السلطان التركي، الذي جاء الآن بجيوشه وأطماعه وجنونه وكوابيس الماضي التي تخايله إلي ليبيا، قاصدًا مصر، آملًا أن يعيدها مجددًا إلي الاحتلال العثماني القديم..