رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا تسلحت شعوب العالم بالأناشيد الوطنية فى مواجهة كورونا؟ (ملف)

جريدة الدستور


> أساتذة اجتماع سياسي: فى الطواعين والأوبئة والكوارث تزداد نبرة "حدود الدولة الوطنية" فى مواجهة العولمة والتكتلات والمنظمات الدولية والإقليمية

> أطباء نفسيون: يكون لديهم الشعور بأنه لا ملجأ إلا للوطن الذى قدم كل ما يملك من إمكانيات لمواجهة الوباء

> خبراء: الأغاني الوطنية تشعرهم بالمهابة وتعرض فى العقول صورًا عظيمة تختزل مجموعة قيم مهما تنوعت وتلونت تبقى مصدر فخر واعتزاز بالنسبة للمواطنين


بتلقائية غير معهودة ودون تنظيم، وجد نحو 3 مليارت من شعوب العالم أنفسهم يصطفون من نوافذ وشرفات منازلهم، يرددون النشيد الوطني لبلدانهم، دون توجيه أو ضغوط من حكوماتهم أو سلطاتهم، فى حالة مختلفة وحدت الشعوب الأجنبية والعربية تسجلها سجلات التاريخ أنها تحدث لأول مرة فى مواجهة جائحة مرض كورونا المستجد "كوفيد 19" والذى لم يتمكن التطور التكنولوجي والعلمي حتى الآن من الوصول لعلاج أو مصل لمواجهته.

"الدستور" فى هذا الملف تحدث لخبراء علوم النفس والاجتماع والسياسة لتحليل الظاهرة، والذين أشاروا بدورهم لفكرة عودة الشعوب وخاصة العربية لفكرة "حدود الدولة الوطنية" فى مواجهة العولمة والمنظمات الدولية والتكتلات الإقليمية، خاصة خلال الطواعين والأزمات الكبرى التى تتخطى إمكانيات الدول ويعجز أمامها العنصر البشري.

وتقول الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع إن الفرد مهما كان غنيا أو قويا لا يشعر بالأمان إلا في وسط اجتماعي يربطه مع الآخرين فيه بشيء واحد وهو النشيد الوطني في ظل التعرض لخطر شديد يهدد حياتهم.
وأوضحت زكريا لـ "الدستور" أن الفرد ليس له قوة بدون اللجوء إلى جماعة، مضيفة أن النشيد الوطني عبارة عن قصيدة وعند قولها نبث كتلة من المشاعر النبيلة للوطن والأمة مفادها أن يبقى الوطن وتبقى الأمة وتستمر.
وأكدت أستاذ علم الاجتماع أن هذه السلوكيات يحركها ما يعرف في علم الاجتماع بـ "حلم الضمير الجمعي"، وهو أن الجميع في اللحظة التي يشعرون فيها أن الأمة تواجه أزمة أو ترغب في الاحتشاد لتحقيق أهداف معينة يتم اللجوء إلى النشيد الوطني لها.

ويعتبر الباحث والأديب أحمد صلاح الدين أنه كلما زادت الضغوط على المجتمعات، فإنها تنحو بطبيعة الحال للمثل الأعلى، متوسلة بمبادئها، ومستنجدة بنموذجها السامي، من هنا يظهر الولاء للوطن بوصفه أحد مرتكزات مراوغة المصائب والمشكلات، لافتًا إلى أن العالم رأي ذلك في أزمة كورونا وكيف تلاحمت الشعوب مع حكّامها، وعادت أعلام الدول ونشيدها الوطني لتخفق ويتردد في كل مكان، إيمانًا بأن السبيل الوحيدة للنجاة هي بالتكاتف.
ويستعيد صلاح فى حديثه لـ"الدستور" نماذح من التاريخ القديم تتواءم مع تلك الأزمة التى أبرزها في الشدة المستنصرية وجفاف النيل عندما خرج المصريون جميعًا يدافعون عن وطنهم بالتلاحم والدعاء، وفي مرض أحمد بن طولون انضمت الأيدي وارتبط بعضها ببعض، وفي ثورتي القاهرة الأولى والثانية على الاستعمار الفرنسي خرج المصريون أقباطًا وشيوخًا يحملون المصاحف والأناجيل، داعين الله أن يخفف الغمة، متمسكين بالراية الوطنية.

ويتفق الخبراء على الكثير من شعوب العالم مما لديهم النزعة الوطنية والقومية أن النشيد الوطني شعرا ولحنا يسموان على كل الأشعار والألحان، يُلقى ويُستمع إليه وقوفًا، تعبيرا عن الاحترام الذي يليق به، ومهما عَظُمت إبداعات الشعراء والملحنين في بلاد ما، يبقى النشيد الوطني وحده في مرتبة خاصة به فوق قمة هرم هذه الإبداعات، ليحظى بالتفاف أبناء البلاد جميعًا حوله.
ولفتوا إلى أن النشيد الوطني رغم أنه قد لا يستغرق إلقاؤه أكثر من دقيقة، ولكن تتميز بالمهابة وتتوالي فى العقول صور عظيمة تختزل مجموعة قيم، مهما تنوعت وتلونت، تبقى أولا وأخيرا مصدر فخر واعتزاز بالنسبة للمنشد، الفخر والاعتزاز بمن هو وبما هو عليه.

ويشير الدكتور جمال فرويز، إخصائي الطب النفسي، إلى أن وقت الأزمات والكوارث يزيد انتماء الأشخاص لأوطانهم، موضحا أن العالم الآن في ورطة بسبب الفيروس ولا يوجد له علاج ما يدفع المواطنين إلى التسلح بالانتماء لأوطانهم لمواجهة هذه الأزمة التي تضرب العالم.
وشدد فرويز لـ "الدستور" على أن الجميع يقدر قيمة بلده في هذه الأوقات التي لا يكون هناك ملجأ فيها سوى وطنه، موضحا أن ذلك يدفعهم إلى غناء أناشيد أوطانهم في الشوارع ونوافذ المنازل وشرفاتها للتعبير عن هذا الولاء، موضحًا أن تقارب الحكومات والشعوب زاد بصورة كبيرة في مختلف البلاد لمواجهة الأزمة، موضحا أن الحكومات تجهز المستشفيات وتوزع المطهرات وأدوات التعقيم وتتخذ جميع الإجراءات الاحترازية التي تحمي مواطنيها الذين يشعرون بقيمتهم في هذه الأوقات.
وأكد أستاذ علم النفس أن هذه الأزمة أعادت الجميع إلى أوطانهم سواء الجاليات المغتربة في كل دولة أو الطلاب المبتعثين إلى الخارج أو العاملين، ما يؤكد أن الوطن هو الملجأ الوحيد في الأزمات بعد اللجوء إلى الله.

ووفقًا للمراجع التاريخية فإن أقدم شعر تحول إلى نشيد وطني في التاريخ المعروف، هو شعر النشيد الوطني الياباني المعروف بـ"كيميغايو" خاصة أنه كُتب في عهد حكم أسرة الهيان فى الفترة بين 794 - 1185م، ولكنه لم يُلحن إلا في عام 1880.

وتعتبر الباحثة في علم الاجتماع السياسي، سلمى أنور، أن خطاب الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا خلال الأزمة كانت له رمزية كبرى، خاصة فى السياق المعروف برجوع الكثيرين من الأوروبيين للغيبيات والدين على وجه التحديد خلال أزمات الطواعين والكوارث والبراكين، وحين تختفي الغيبيات والنزعات الدينية تكون العودة أوتوماتيكية للنعرات الوطنية خاصة أن المكون الديني فى الشمال الأوروبي ليس الأبرز فى تشكيل حيواتهم لا سيما أن ذلك يتزامن مع أحداث البريكست وخروج بريطانيا فتكون القومية الوطنية الأبرز لديهم فى مواجهة الوباء.
وتوضح سلمى لـ"الدستور" أن اصطفاف المليارات حول العالم متسلحين بالنشيد الوطني ليس محض صدفة، لافتة إلى أن ما حدث فى إيطاليا كان يظنه الخبراء فى الاجتماع السياسي مع زيادة المرض هناك سيكون أقرب للعودة للتدين، وسيكون هناك استدعاء للمكون الديني مثلما فعلت مجموعات من المصريين فى الإسكندرية وخرجوا فى مظاهرات ضد الجائحة بتكبيرات دينية وأدعية للسماء، لكن فى إيطاليا وجدناهم ينشدون أغنية "بيلا شاو" الوطنية التى كانوا يغنونها فى حروب القرن الماضي كمحفز وطني.
وتشير الباحثة في علم الاجتماع السياسي إلى أن التوجهات الأوروبية لحرق أعلام الاتحاد الأوروبي والتي تعد "نعرة شوفينية" خاصة بإيطاليا تطالب بالحدود الوطنية بعيدًا عن التكتل الأوروبي وأنهم لم يساعدوهم فى الجائحة، لافتة إلى أن أساتذة الاجتماع السياسي كانوا يتحدثون عن وجود لاعبين عالميين فى الأزمات سواء منظمات أو أفراد لكن يظل القالب القومي هو الأقوى. خاصة أن الشعوب مرتبطة عاطفيًا بحدودهم الوطنية بشكل كبير، وهو ما يؤكد أن الدولة القطرية بشكلها التقليدي ورغم فشلها أحيانًا إلا أنها تظل هى الأقوى.
وقالت سلمى إنه لا يمكن توصيف النشيد الوطني لنا كعلاج فى مواجهة الأزمة لكنه إحدى نقاط الارتكاز لتماسك الشعوب داخل الدول القُطرية، لافتًا إلى أنه رغم أن ألمانيا لديها نظام طبي قوي وتستقبل حالات من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلا أن الجائحة لو ازدادت هناك يتوقع خروج نعرات شوفينية ونازية واستخدام النشيد الوطني أيضًا هناك.

وتتفق الدكتورة منال عمران أستاذ علم الاجتماع حول أن قوة الانتماء للشعوب تظهر خاصة في وقت الأزمات، مشددة على أن الشعوب التي تهتف وتردد نشيد دولتها الوطني وتعتبره وسيلة لمواجهة أزمة يكون لديها ترابط اجتماعي كبير وتقارب، وهو ما حدث في أزمة فيروس كورونا المستجد.

فيما رفض الدكتور أحمد ثابت الخبير النفسي، فكرة ترديد الأناشيد الوطنية في تجمعات قد تضر وتنشر الفيروس، مؤكدًا أن النشيد القومي يؤكد كل انتماء كل فرد للوطن الذي يعيش فيه، وأن إنشاده في الظروف الصعبة هو دليل الانتماء للوطن.
وأكد ثابت  ضرورة الالتزام بالإجراءات الاحترازية المعلن عنها لعدم الإصابة بالفيروس خاصة عدم التجمع والتباعد الاجتماعي.

ولكل نشيد وطني عالمه الخاص نشأة وتطورًا، كما هو حال الوطن الذي ينشده، لا سيما وأن الأوطان غالبًا ما تحتشد بمقدار هائـل من المعاني والذكريات والبطولات والصور التي لا تُختزل، والنشيد الوطني هو أبرز الرموز التي أبدعها البشر لتكون بطاقة هويتهم الوطنية التى اكتسبت أهمية في العصر الحديث أكثر من أي وقت مضى، بفعل تزايد الاتصال فيما بين الشعوب والدول، فخرج النشيد الوطني من حدود وطنه الأم، وصار حاضرًا في المناسبات الدولية الكبرى والرسمية كواحد من أبرز سماتها.

ويقول الدكتور حسن الببلاوي أستاذ علم الاجتماع في مصر، إن التشابه في تصرفات شعوب الدول بالهتاف بنشيد دولتهم هو ناتج عن الشعور بخطر يحدق بهم، ما كون ما يُعرف بالعقل الجمعي المبني على مفاهيم وإدراكات الانتماء والوطنية وغيرهما.
وأوضح الببلاوي لـ "الدستور" أن هذا العقل الجمعي يحرك الناس نحو سلوكيات معينة ومتشابهة، مثل الانضباط الذاتي والعزلة الذاتية والرقي بحياتهم وقراءة ما لم يكونوا يقرأونه والتقارب الأسري وفرصة للفنون والموسيقى والاستماع وهنا يظهر المكنون العقلي ومنها الهتاف بنشيد الوطن.
وأكد استاذ علم الاجتماع أن ترديد النشيد الوطني هو انتفاضة من هذه الشعوب ضد خطر فيروس كورونا المستجد الذي يواجههم، وفقا للمكنون الثقافي الموجود داخلهم.

جدير بالذكر أن بداية وجود تقليد نشيد وطني ليكون رمزًا لدولة، ظهر في أوروبا وخاصة في القرن التاسع عشر، على الرغم من أن بعض الأناشيد كانت أقدم عهدًا، لكنها لم تكن معتمدة رسميًا. وكان النشيد الوطني البولندي "بوغورودزيكا" أشهرهم، بعدما ظهر فى الفترة ما بين القرنين الميلاديين العاشر والثالث عشر، ويليه فى الترتيب نشيد هولندا الذي عرف بـ"فلهلموس" وكُتبت كلماته بين عامي 1568- 1572م خلال أحدث الثورة الهولندية، وكانت تتغنى به المسيرات المؤيدة لأسرة أورانج الحاكمة واعتُمد رسميًا عام 1932م.

وتعد مواجهة الشعوب لفيروس كورونا المستجد "كوفيد – 19" الذي شكل وباء عالميًا، اختلفت من شعب لآخر، وكشفت عن أن هذا الفيروس تسبب في لحمة العديد من شعوب العالم، كما كشف عن أن الشعوب بعيدًا عن السياسة والسياسيين، يتلاحمون ويتضامنون مع بعضهم البعض في الأزمات بالرغم من اختلاف الديانات واللغات والثقافات، واتضح ذلك جليًا في العديد من الفعاليات التي نظمت خلال العزل المنزلي في كثير من مدن العالم، وقد بدأ فى ووهان الصينية ثم فى إيطاليا ومن بعده عدة دول على رأسها الإمارات والتى خرج فيها الوافدون من شرفات منازلهم يغنون بالنشيد الوطني الإماراتي.
إلى ذلك، خرج الإيرانيون ينشدون الأنشودة الوطنية "أي إيران" من شرفات منازلهم في حي أكباتان في العاصمة طهران، تحديًا لفيروس كورونا، ولبثّ الحياة في شوارع الحي التي خلت من المارة بشكل لم تشهده طوال تاريخها، وتعزيزًا للروح المعنوية فيما بينهم جراء عزلتهم الذاتية.