رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: تغريبة رمضانية فى بحر القنال

محمود خليل
محمود خليل

كانت مصر على موعد مع حدث من نوع خاص فى ٢٢ رمضان عام ١٢٧٥ «٢٥ أبريل ١٨٥٩»، كان له بالغ الأثر على مجمل تاريخها المديد فيما بعد، ففى هذا اليوم تم ضرب أول معول فى حفر قناة السويس، حين ذهب المسيو فرديناند ديلسبس على رأس أعضاء مجلس إدارة شركة القنال إلى برزخ السويس من جهة البحر المتوسط، وبصحبته فريق من العمال والنوتية يتكون من أكثر من ١٥٠ شخصًا، نهض ديلسبس خطيبًا وسط هذا الجمع- كما يحكى إلياس الأيوبى فى كتابه عن «عهد الخديو إسماعيل»- ثم قال: «باسم شركة قناة السويس البحرية الكونية، وبمقتضى قرارات مجلس إدارتها، نضرب الآن أول ضربة فأس على هذه الأرض، لفتح مداخل الشرق إلى تجارة الغرب ومدنيته، ونحن متحدون هنا فى إخلاص واحد لصالح مساهمى الشركة ومصالح الأمير النبيل محمد سعيد منشئها الكريم والمحسن إليها صنعًا».
كان الكبار من أمثال «ديلسبس» يتحدثون ويذكرون كبارًا أمثالهم مثل الخديو سعيد عاهل البلاد، ولم يكن البسطاء من العمال يفهمون شيئًا، ديلسبس يحدثهم عن شركة كونية أو عالمية، والكون أو العالم بالنسبة لهم هو قراهم التى انتزعوا منها انتزاعًا ليعملوا فى مشروع لا يفهمون من اليافطات الكبرى التى يرفعها الكبار على بوابته أى شىء، شارك فى حفر قناة السويس، كما تذكر كتب التاريخ، حوالى ٢٠ ألف مصرى، البعض يقول إنهم كانوا أكثر من ذلك بكثير، فالاتفاق المبرم بين «سعيد» و«ديلسبس» ألزم الحكومة المصرية بتقديم أربعة أخماس العمال الذين تحتاج الشركة إليهم، ولو بلغ عددهم عشرين ألفًا. ولكى تنفذ الحكومة ما التزمت به كلفت العمد الذين كلفوا بدورهم شيوخ البلد وشيوخ الخفر بجمع الفلاحين من قرى ونجوع مصر وتكبيلهم بالحبال والحديد والخشب وسوقهم سوقًا إلى ترعة القنال ليشاركوا فى أعمال الحفر. لم يكن أحد يستطيع الهرب أو الإفلات من قبضة السلطة القروية التى أحصت الجميع عددًا فى واقع مكانى مغلق، الجميع فيه معروف لدى الجميع. ولك أن تتخيل إحساس فلاح ينتزع من حضن أولاده وأهله وأحبابه فى شهر رمضان ثم يكبل ويقاد إلى مكان مجهول لإنجاز هدف مجهول بالنسبة له. المصريون لا يحبون الابتعاد عن ديارهم فى المجمل، وفى رمضان على وجه الخصوص، لكن إرادة الكبار شاءت أن تبدأ فصول المحنة التى عاشها هذا الجيل فى رمضان.
اعتمدت الحكومة على مبدأ السخرة فى جمع العمال الذين التزمت بتوريدهم للمشروع، فلم يكن ثمة خيار أمام العمال الذين شاركوا فى العمل. ومن عجائب الأشياء أن الخديو إسماعيل ناور بورقة «السخرة والدفع بالعمال غصبًا وقهرًا» حين قرر إعادة صياغة الاتفاقية المبرمة بين الحكومة المصرية وشركة القنال بعد توليه الحكم خلفًا للخديو سعيد. فأخذ يردد أنه يريد إبطال السخرة، وأن السخرة أمر كريه من الوجهة الإنسانية، تأباه روح الإنصاف وتنفر روح العدالة منه، وبناءً على ذلك طالب الشركة بالتنازل عن حقها فى مطالبة الحكومة المصرية بتوريد العمال اللازمين للحفر، لأنها تشغلهم بالسخرة. وقد ردت الشركة عليه بأنها تدفع للفلاحين المنتزعين من قراهم أجرة انتقالهم إلى ومن برزخ القنال، وتدفع لهم أجورًا يومية أعلى مما يدفع لأمثالهم من العاملين فى أماكن أخرى من البلاد، وتقدم لهم المأكل والمأوى والعلاج.
لم يكن الخديو إسماعيل يستهدف من وراء التباكى على التعامل بالسخرة مع عمال البرزخ سوى الضغط على أعضاء مجلس إدارة الشركة، فسلفه سعيد وهو نفسه سمحا بجمع العمال بالقهر والإكراه من كل حدب وصوب، أما إدارة الشركة فقد عايرته بأنها تعطى العامل فى البرزخ حقوقًا لا تمنحه الحكومة المصرية نصفها أو ربعها. تاه المصرى البائس بين الكبار، وتواصلت تغريبته الرمضانية فى برزخ القنال مجموعة من السنين المتوالية، مات من مات وواصل الحياة من واصل، لكن يبقى أن هذا الجيل شارك بدمه فى بناء مشروع استفادت منه الأجيال اللاحقة من المصريين، وهكذا جرت سنة الحياة أجيال تجنى وجيل يدفع الثمن